حمد بن سالم العلوي
هذه المرة الأولى التي أحضر فيها حفل تكريم تقيمه هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية العُمانية، وهو التكريم الثامن على التوالي الذي تقوم به الهيئة لتكريم مالكي وحائزي الوثائق الخاصة، إنّ الذين حضروا التكريم يوم الإثنين الموافق 11 من مارس عام 2019م يشعرونك من خلال حضورهم بحماس منقطع النظير، أنّهم يحضرون برغبة جامحة من ذات نفوسهم، لا تلبية لطلب من الهيئة وحسب وهو حرص منهم على صون مكنوناتهم القيِّمة من التلف بعوامل الزمن، فقد شعروا بجدية هيئة الوثائق والمحفوظات، فهذه الهيئة التي عرفت أهميّة الذاكرة العُمانية، وقيمتها المادية والمعنوية، وإنّ هذا الاهتمام لن يتوقف مع التاريخ العُماني العظيم، والرغبة الأكيدة في الحفاظ على ذاكرة عُمان كشاهد لها وعليها، وعقلها المعنوي السابح بين صحائف وسجلات إمبراطوريات العالم في ذلك الزمن البعيد، فتلك السجلات الناطقة كتابة بوجود الأمجاد العُمانية التي أثَّرت في الإرث العالمي.
وذلك بما كان لعُمان من قدر عظيم تحترمه مهابة دول عظام، وذلك شأن لا يمكن أن يغفل عنه قريب أو بعيد، سواء كان ذلك في الماضي السحيق، أو في الحاضر المشرف المجيد، أو في المستقبل الواعد البعيد، بأن تكون ركيزته على ذلك الماضي العظيم، فهذه الهيئة سوف تقف أيضاً حارساً أميناً على منسوج تاريخ النهضة العُمانية الحديثة.
إن قائد النهضة العُمانية الحديثة جلالة السلطان قابوس المعظم - حفظه الله وأدام عزه - رأى من الضرورة بمكان أن ينشئ هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، وذلك بعدما جاوز عمر النهضة العُمانية المباركة الأربعين عاماً، يكون اهتمامها ربط الماضي بالحاضر، والحفاظ على الذاكرة العُمانية من الاندثار والنسيان، وقد اختار لها شخص الدكتور حمد بن محمد الضوياني ليكون رئيساً لها، فإنّ اختيار الرجل المناسب لعمل مهم وكبير القدر، يستلزم أن يكون رجلاً يحمل صفات القائد الذي يجمع بين إنسانية والإنسان، والإدارة العملية الحكيمة لعمل خاص ومتميز، فهو ليس كجميع الأعمال الإدارية الأخرى، لأنّ جمع التاريخ يحتاج إلى من يستطيع أن يحدد الأهداف ثم يحلل مهام العمل، الذي يكون خليطا بين الأمن وسرية المضمون، واختيار المواد التي من الممكن إظهارها، فيظهر جلها ويحفظها كلها وفقاً للمتطلبات الضرورية، فمن بعض الوثائق ما هو يتّصف بالسرية والخطورة، لأنها تقوم عليها قرارات ذات قيمة دولية ووطنية وتبعات سيادية.
إذن؛ لقد استحق الإنسان العُماني، أن تكون له هيئة وطنية للوثائق والمحفوظات، تحفظ له ثقافته وتاريخه العظيم، فالإنسان العُماني، لم يكن يحرجه كثيراً عدم توفر القرطاس والقلم، فتجده يدون معلومة على صفح صخر صلد، أينما كان يتواجد في قمة جبل أو على ضفاف وادٍ، فيظل ذلك الخط على الصخر صامداً، وقد يصبح كاتبه رميماً في التراب، فقد تعلم من تلك المخطوطة حدثاً ما، أو تفاصيل أشياء مهمة، وتقيِّم من ذلك المخطوط الثقافة السائدة في ذلك الزمان البعيد، وحرص الناس على حفظ الحقوق عندما يكتب وصية ما، وإن كانت شخصية، ولكنها مهمة لمن تعنيه تلك الوصية، وفي نفس الوقت تمثل نبراساً لحماية الحقوق الخاصة، فتجد الناس يقتدون بذلك النهج الذي ظل العُمانيون سائرون عليه في أعرافهم وتقاليدهم الكريمة.
وهنا أذكر حالة شخصية كمثال على ذلك، فقد مات أبي وأنا خارج الوطن، وكان والدي رحمة الله عليه شاباً لم يجاوز الأربعين من العمر، فقد ألم به مرضاً بسيطاً وبصورة مفاجئة، قد يكون بين الزائدة الدودية، أو مرض الكلى ولعدم وجود طبيب في المنطقة توفى في نفس الليلة التي مرض فيها، وكنت صبياً حديث السن عندما أرسلني والدي برفقة أحد أعمامي للتعلم في الخارج، فوقتذاك لم تكن في البلاد مدارس قبل عام السبعين، ونتيجة صغر سني لا استطيع تذكر ملامح أبي، ولكن كنت أعرف إنه كان يصلي جماعة بأهل القرية، وتعجُبنا كأطفال قراءة الأدعية في رمضان، ولأنها متكررة نستطيع حفظ بعض منها، ولكن ما كنت أعرف أنّ والدي كان كاتباً بالعدل، حتى وقفت قريباً على قصاصة ورق فيها عقد بيع نخلة، وقد كتب العقد والدي وبصيغة شرعية رصينة بالتاريخ والشهود، ففرحت فرحة كبيرة أن رأيت أبي في قصاصة الورق الصغيرة تلك.
إنّ الأمر الجميل الذي تقوم به هيئة الوثائق والمحفوظات، أنّها لم تقف مع الوثائق التي جمعتها وزارة التراث والثقافة وحسب، وإنّما ذهبت إلى إمبراطوريات العالم القديم، كالبرتغال وهولندا وفرنسا وبريطانيا والكثير من الدول الأوروبية وحتى أمريكا، وبحثوا عن الوثائق العُمانية التي تغص بها مكتبات العالم، وكذلك دول آسيا والصين وإيران ودول إفريقيا وبعض الدول العربية، ولكن هناك تاريخ موجود في أيدي الناس هنا في عُمان، واستطاعت الهيئة بحنكتها وخبرتها أن تقنع الناس وتطمئنهم بأنّ وثائقهم ستعالج وتعاد إليهم مع الاحتفاظ بنسخة منها، فاطمأن الناس وأخذوا يدفعون بمكنوناتهم الزاخرة بالمعلومات إلى الهيئة.
إنّ هيئة الوثائق والمخطوطات لم تكتف بهذا، وإنما أخذت تذهب مع الناس إلى المخطوطات التي على جدران المساجد القديمة ونسخها وتصويرها، ونسخت أيضا ما وجدته مكتوباً على صفحات المصاحف الخارجية من معلومات وتواريخ مهمة، وكذلك ذهبت إلى قمم الجبال وسفوحها حيث توجد مخطوطات على الصخور، ونزلت أيضاً إلى ضفاف الأودية وفعلت الشيء نفسه، فقد نقشها الإنسان العُماني بأداة حادة وبخط جميل على الصخر، وظلت صفحات الصخور صامدة رغم العوامل الطبيعية الحادة التي مرت بها، فلم تتغير مثلها مثل الشخصية العُمانية الصامدة، وليس هذا وحسب وإنّما ذهبت إلى الأشخاص المعمرين، وأخذت منهم رواياتهم الشفهية، فتم تسجيلها في وسائل سمعية، ثمّ تمّ تفريغها على الورق، فمثل هذه الجهود الكبيرة تحتاج فعلاً منا شكر هذه الهيئة وتقديرها.
إذن؛ فقد كانت هيئة الوثائق والمحفظات الوطنية ورئيسها وكافة القائمين عليها هم من يستحق الشكر والتكريم والثناء، ولسنا نحن المكرمون، فعملهم العظيم الرائع هذا وإنّ كان هذا العمل يمثل أحد ثمار النهضة العُمانية الحديثة الرائعة، لكن إنّ الذي قاموا به على هذه الصورة الابداعية المشرفة لم يكن بالأمر السهل، فهناك غيرهم لم يقم بواجبه بمثل ما قامت به هذه الهيئة.
حفظ الله جلالة السلطان قابوس المفدى، ونقول له شكراً لكم مولانا على ما أبدعتم فيه من نهضة عُمان الشاملة، وشكراً لرجالكم المخلصين في العطاء من أجل عُمان وشعبها الأبي، ودام عزك يا عُمان وطال عمرك يا سلطان.