صناع الكتب.. والتجديف في بحر التحديات

◄ وجود ممثلين للبلد على هذا المستوى في معرض الكتاب يستحق أن يحظى بمبدأ تكافؤ الفرص في مختلف الجوانب حتى في التغطية الإعلامية

د. سيف بن ناصر المعمري

التنمية بدون ثقافة تقود إلى تحقيق أشياء كثيرة إلا بناء العقول الواعية المثقفة؛ ولذا لا نبالغ إن قلنا أنّ ما يُخصص للثقافة ليس ترفا أو لا عائد له كما يعتقد البعض، إنّما هو استثمار مهم يعود بفوائد جمة؛ لا يمكن أن تتحقق من خلال الصرف على قطاعات أخرى، فهو يعود بالأمن والاستقرار وهما هاجس أي بلد وخاصة بلدان المنطقة، ويقود إلى وجود فرد مرن غير متعصب أو غير معرض للانحياز للإيديولوجيات الضيّقة التي تحاول توظيفه لتفتيت تماسك مجتمعه أو وطنه.

وخلال السنوات الماضية ترددت على أذهاننا كلمة الاستثمار كثيرًا ولكنّها نادرا ما تمّ ربطها بالثقافة رغم الأزمة الاقتصادية التي قادت إلى ترشيد كثير من النفقات التي كان المواطنون يستفيدون منها، بل وقادت إلى إلقاء ضغوط مالية أخرى عليه، مما كان يتطلب إنفاقا على الثقافة وقطاعاتها من أجل تقليل حالة الإحباط التي يشعر بها كثيرون خاصة جيل الشباب، لكن الثقافة نفسها تعرضت لترشيد كبير جدا، من عدة نواحٍ من حيث الإنفاق الحكومي على شراء منتجات المشتغلين فيها وفي مقدمتها الكتب، أو في رفع الرسوم على الفعاليات الثقافية الكبرى وفي مقدمتها معرض مسقط الدولي للكتاب الذي سوف نشهد انطلاقته خلال الأسبوع الجاري. هذا الواقع يدفعنا إلى التساؤل عن حظ التنمية الثقافية في بلد عريق مثل السلطنة، خاصة في ظل إطلاق رؤية عمان 2040، كما يدفعنا إلى تحليل بعض المؤثرات التي تؤثر في العاملين في هذا القطاع في ظل هذه التراجع في الإنفاق والاهتمام الثقافي.

ولأنّ موضوع التنمية الثقافية كبير جدًا سأعمل على الاقتصار على صناعة الكتب داخل البلد من قبل المؤسسات القليلة التي لا تزال تواصل الإنتاج خلال هذه السنوات، وتعمل على تمكين الكُتّاب العمانيين من النشر حتى يكونوا واجهة ثقافية للبلد ينقلون المستوى الذي وصلت إليه بالمجالات الأخرى إلى الجانب الثقافي. ورغم هذه الاستمرارية من عدة ناشرين عمانيين إلا أنّ هناك مجموعة من النقاط تثير تساؤلات حول آلية دعم هؤلاء كغيرهم من القطاعات، والدعم هنا لا يقصد به تقديم المال إنّما يقصد به عدم الحرمان من الفرص المتاحة لهم والآخرين، فإذا تساوى في كل شيء فمن حقهم الأولوية، ويمكن هنا نركز على نقطتين: الأولى تتعلق بإسناد طباعة الكتب من قبل الجهات الرسمية لدور نشر خارجية بدلا من إتاحة الفرص للتنافس مع الناشرين المحليين؛ فقد عرفنا أنّ الكلفة التي تتحملها هذه المؤسسات سواء كانت مدنية أو حكومية مرتفعة رغم طباعتها لأعداد كبيرة من الكتب وبنسخ كبيرة أيضًا، كما عرفنا أنّ مبرر الانتشار الخارجي غير متوفر فحين تحققنا من عدد من الناشرين الذين نشروا كتبا لجهات حكومية أو أفراد، قالوا لنا إنّهم لا يحملون الكتاب العماني إلا إلى مسقط المكان الوحيد الذي يمكن أن يروج فيه، وأنّهم غير مستعدين لشحنه لمعارض تترتب عليها كلفة إضافية دون أية عوائد. وبالتالي لِمَ تعمل بعض الجهات الرسمية والمدنية على الإصرار على هذا التوجه؛ في وقت تمر فيه صناعة النشر بتحديات كبيرة؟ وإن كان البعض قدم بعض المبررات على استحياء فإنّها لم تكن مبررة ولو نشرت تكاليف طباعة هذه الكتب ربما سوف يذهل الكثيرون من ارتفاعها، ومن ذهاب المال العماني للخارج مع وجود البديل الجيد الذي يستطيع أن يقدم هذه الخدمة بنفس المواصفات والجودة وبسعر منافس لو أتيحت المنافسة في ذلك.

أمّا النقطة الأخرى فهي تحدث أثناء المعرض، وهي متعلقة بدعم الكتاب العماني من خلال توجيه مبالغ منطقية للشراء من دور النشر العمانية؛ لتحقيق هدفين؛ دعمها أولا، وثانياً دعم المؤلفين العمانيين. ولكن ما يحدث حقيقة في السنوات الأخيرة تحت مبرر التقشّف يحتاج إلى مراجعة عميقة، ففي الوقت الذي تمتلك هذه المؤسسات مبالغ جيدة يمكن أن توجهها للكتب التي تخدم توجهات وطنية مهمة، نجد أنّ ذلك لا يحدث بسبب محدودية المبالغ المتاحة لها، ولكن نتفاجأ في المعرض الماضي من مؤسسة كانت تبرر ذلك، فإنفاقها مبلغًا وقدره 150000 ريال عماني على الشراء من دار نشر واحدة فقط، في الوقت الذي يعلن القائمون عليها أنّ المبلغ المتاح للاقتناء من أي دار نشر لابد أن يكون محدودا، فتحت أي مظلة حدث ذلك؟ لا يزال السؤال قائما وربما يتكرر ولكن على المؤسسات أن تعطي أهمية كبرى لتعزيز تكافؤ الفرص بين الدور العمانية وغير العمانية، دون أن يخل ذلك بخطتها واحتياجاتها.

إنّ صناع الكتب العمانيين يدخلون معرض مسقط الدولي للكتاب؛ ليسوا كمشاركين عاديين إنما كمنافسين في كل شيء، في المواضيع التي ينشرونها، وفي جودة الطباعة التي يقدمونها، وفي إخراجهم للكتب، وفي الإقبال على المساحات التي يشغلونها، وفي البرامج الثقافية التي يقدمونها والتي تقود إلى تميز المعرض ونجاحه، وهم يغيرون الصورة تدريجيا عن ضعف إنتاج الكتاب في عمان، وعن غياب دور النشر فيه، وهذا الدور الذي يقومون به يعد حيويًا ومحوريًا ويضاف إلى البلد قبل أن يضاف إليهم، فمعارض الكتب تعد أهم واجهات ثقافية لأي بلد، ووجود ممثلين للبلد على هذا المستوى في المعرض يستحق أن يحظى بتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص في مختلف الجوانب حتى في التغطية الإعلامية من قبل مختلف وسائل الإعلام المطبوعة والمرئية، وهذا ما نأمل أن نجده في هذه الدورة من معرض مسقط الدولي للكتاب، الذي نتمنى كل النجاح والتوفيق للقائمين عليه.