الجابري وقضية التفسير والاستشراق

عبد الله العليان

 

في محاضرته بالنادي الثقافي مؤخراً "قراءة في مشروع محمد عابد الجابري"، ردّ المفكر السوداني غسان علي عثمان، على أحد الأسئلة حول تفسير الجابري للقرآن الكريم، ومما جاء في رده: أنّ مما أُخذ على الجابري في هذا التفسير حول سقوط بعض الآيات، أنه تبنى رؤية إستشراقية حول هذا الأمر، وأنّه ـ أي الجابري ـ كان في أواخر حياته، ولم تتح له الفرصة لمراجعة ما قاله عن تبينه آراء بعض المستشرقين.

الحقيقة أنني أختلف مع الأستاذ غسان في هذه النقطة، مع أنني أحترم رؤيته العامة وقدرته العميقة في الإحاطة بفكر الجابري، سواء في مشروع نقد العقل، أو مؤلفاته الأخرى. فالأستاذ الجابري في الجزء الأول من المقدمة "في التعريف بالقرآن" أشار إلى بعض المصادر العربية السنية والشيعية، التي تحدثت عن جمع القرآن، أو الآيات التي نسخت، أو سقطت ـ كما قال البعض ـ لكنه لم يشر للمستشرقين في هذا الأمر أبداً، لكنّه أشار للمستشرقين في ص (243) تحت عنوان (لا جديد في ترتيب المستشرقين)، وقال: "إنّ الترتيب المعتمد بناء على رواية ابن عباس وغيره أقرب إلى منطق مسار السيرة النبوية من ذلك الذي وضعه نولدكه وبلاشير". (ص232). وانتهى الجابري بقوله: "خلاصة الأمر أنه ليس ثمة أدلة قاطعة على حدوث زيادة أو نقصان في القرآن كما هو في المصحف بين أيدي الناس، منذ جمعه عثمان"، وأشار الجابري في نفس الصفحة إلى العديد آيات القرآن الكريم، ومنها الآية التي في سورة الرعد:( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ، يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)، (38،39). فالدكتور/ الجابري لم يتناقض رأيه عن مسألة جمع القرآن الكريم، فالجابري يختلف عن الكثير من الكتاب والباحثين والمعاصرين ـ في رأيي ـ الذين للأسف (يدافعون عن الحجة ونقيضها) أحياناً، كما اتبعها السفسطائيون في اليونان، حتى قبل هذا الإقدام على التفسير قبل عدة عقود.

ففي الجزء الثاني من مشروع نقد العقل العربي (بنية العقل العربي)، الفصل الثالث من البنية [الأصل والفرع] ص (127) قال ما نصه: "القرآن كما هو بين أيدينا اليوم وكما كان في كل العصور الإسلامية الماضية، هو نفسه القرآن كما جاء به الرسول، لا تغيير ولا تحريف، دليل ذلك "إجماع الصحابة)" على صحة وكمال المصحف الذي تمّ جمعه وإقراره بصورة نهائية كنص تأسيساً أصولياً".

ليس هذا فحسب؛ بل نجد أنّ الجابري أيضاً يؤكد على هذا الأمر في مناسبة أخرى، برؤى عقلية ومنطقية، وهو يرد على بعض الباحثين العرب الذي تأثروا بالمستشرقين، وأصبحوا نسخاً منهم، يكررون ما قاله المستشرقون عن الإسلام في مناحٍ كثيرة، ومن هؤلاء من تحدثوا عن النقد اللاهوتي، كما تمّ في الغرب بعد عصر الأنوار، ويريدون أن يطبقوه على القرآن الكريم سواء بسواء، ففي كتابه "المسألة الثقافية" ص 278 قال:" الدين الإسلامي له كتاب مقدس لم يلحقه تغيير ولا تبديل  منذ أن جُمِع في عهد عثمان، وليس هناك دليل قاطع على أن نوعاً من التحريف أو البتر أو التغيير قد حدث في فترة ما بين نزول القرآن وجمعه(:) لقد كانت هناك اتهامات متبادلة لا حدود لها وصلت إلى حد التكفير والى حد الفتنة والقتل، ولكن لم نسمع عن أي واحد من خصوم عثمان يتهمه بأنّه جمع القرآن مبتوراً أو أحدث  فيه هو أو غيره  تغييراً".

الجابري في الكثير من أبحاثه ودراساته ومقابلاته، يحذر من هيمنة الفهم الاستشراقي والمركزية الأوروبية تجاه الفكر والثقافة العربية الإسلامية، وهذا مبثوث في العديد من مؤلفاته منذ السبعينيات والثمانينيات القرن الماضي.. ففي كتابه "التراث والحداثة.. دراسات ومناقشات"، أشار الجابري إلى قضية "العلاقة الصريحة حيناً، والخفية حيناً آخر، بين الظاهرة الاستشراقية والظاهرة الاستعمارية، ولا تلك الرواسب الدفينة التي كانت تؤسس بصورة أو بأخرى تلك المطاعن، التي وجهت للإسلام والفكر العربي من طرف (بعض الباحثين الغربيين) والتي يعود أصلها إلى الصراع التاريخي بين المسيحية والإسلام خلال القرون الوسطى".

وفي كتابه "المشروع النهضوي العربي.. مراجعة نقدية"، تحدث الجابري عن رؤية المركزية الغربية ورؤيتها تجاه الآخر المختلف، والنظرة الاقصائية المتعالية تجاه الثقافات التي لها نظرة تتقاطع مع الفكر الغربي، ومحاولة الطعن في الفكر والثقافة بهدف أرسى النظرة الاستلابية إليه، وهذا ما قام به أغلب المستشرقين، فقال: "المستشرق الذي ينكب على دراسة الشرق، سكانه وأحواله وحضارته، لا يمكن أن يبقى بمعزل عن التأثر، بصورة أو بأخرى، بهذا النظام الفكري الذي يُكرِّس لتفوق الإنسان الأوروبي تاريخياً وحضارياً وبيولوجياً وعقلياً (:) فلا بد لتأثير ذلك النظام الفكري الذي ساد أوروبا، النظام الذي يكرس تفوقها ويبرر هيمنتها ويجعلها مركزاً للعالم والحضارة".

وللحق أن د. محمد عابد الجابري، لم يبخس جهود ما قدمه بعض المستشرقين للتراث العربي الإسلامي، خصوصاً تحقيق المخطوطات والتنقيب عن المآثر الكثيرة في هذا التراث والثقافة الأدب، لكنه قال في نفس الوقت "يجب أن نكون واعين في ذات الوقت بأنّ اهتمامهم بهذا التراث (:) لم يكن من أجلنا نحن العرب والمسلمين، بل كان دوماً من أجلهم. وإذن يجب أن نتعامل معهم على هذا الأساس". "التراث والحداثة" ص (94)، وقد ناقشت هذه القضية في كتابي "الاستشراق بين الإنصاف والإجحاف".. وربما الأستاذ غسان في إجابته عن السؤال حول تفسير الجابري، اختلط عليه، تأثر الجابري ببعض مناهج والمفاهيم بعض المفكرين الغربيين، مثل ميشيل فوكو، وباشلار، وألتو سير، والجابري لم يخف استفادته من مناهج هؤلاء المعرفية "الأبستمولوجية" لكن دون الالتزام برؤيتهم لواقعنا كتطبيق، وقد قال ذلك في مقدمة كتابه "الخطاب العربي المعاصر".