أطفالنا.. نور العين

محمد علي العوض

اللغة في أبسط أوصافها تعرّف بأنّها نسق من إشارات ورموز صوتية ذات معاني تعبر بها الأقوام عن أغراضها، تبدأ مع الإنسان منذ لحظة الميلاد؛ فصرخة الوليد أول تعبير لغوي للإنسان. الكل يخرج من بطن أمه صارخا ومن لا يصرخ إما أن يكون ميتاً أو في حالة إعياء وصدمة من ضنك الحمل والولادة، ويعزو علماء النفس وعلى رأسهم "بياجيه" الصرخة إلى أنّ الجنين في بطن أمـه يعيش في جنة لا يكدر صفوه فيها بشر ولا هواء أو ضوء مزعج؛ هدوء تام فقط، وحين يخرج تأتي هذه الصيحة كردة فعل عكسية واعتراض على تغيّر محيطه من الباطن إلى العلن، بينما يرى آخرون أنّ السبب هو دخول الهواء إلى رئـتيه لأول مرة. وهي بمثابة لغة يترجم بها الوليد حاجته للطعام أو شعوره بالألم قبل نضج جهازه العصبي المركزي وتكوّن أجهزته الإدراكية.

اللغة بطبيعتها ميزة إنسانيَّة فطريَّة في المقام الأول قبل أن تصبح عملية مكتسبة بالممارسة والاحتكاك أو التعليم، وحتى يصل الطفل لهذه الحالة فإنّه يمر بعدة مراحل أولها مرحلة ما قبل الكلمة الأولى؛ فيها يُعبر عن نفسه بواسطة الصراخ في حالة الضيق والمناغاة في حالة الارتياح؛ والمناغاة عبارة عن أصوات وانعكاس لمرور الهواء من تجويف الحلق إلى تجويف الفم دون أي عقبة، وغالبًا ما تكون حروفا حلقيَّة متحركة ممدودة مثل (آآآآآ) أو (غاااااا) يحاكي بها الطفل أصوات الكبار من حوله قبل أن يدرك أنّ هذه الألفاظ كفيلة بتحقيق رغباته إذا ما أفلح في نطقها.

تمتد هذه المرحلة حتى نهاية السنة الأولى من عمر الطفل، تكون الأصوات فيها عشوائيَّة وغير مترابطة؛ لكنّها طريق الطفل إلى تعلم اللغة، وفيها يستعذب إصدار الأصوات وإدراكها ومحاولة محاكاة ما يصل إليه من أصوات وكلمات.

أول ما يتلفّظ به طفل ما قبل الثانية من ألفاظ؛ ما يُعبر به عن حاجاته الأوليَّة؛ كالطعام، والشراب، وكذلك يتعلم من أبويه نطق الأشياء الدائمة حوله مثل الكرة أو القطة المنزلية، ويبدأ في هذه السن التعرف على أجزاء جسمه كالعين والأنف والأذن والرأس والأصبع والرجل واليد والبطن.

وبالطبع لن تكون المفردات على شاكلة طويل، قصير، سريع، دافئ؛ حاضرة في قاموسه الصغير الذي لا يتجاوز في هذه المرحلة خمسين كلمة. ولن يستطيع الوصول إلى المرحلة الكلاميَّة الأولى إلا برؤية الأشياء مجردة أمامه والإحساس بها، فالطفل في هذه المرحلة يربط بين ما يسمعه وبين ما يترتب حوله من أحداث؛ ومعروف أنَّ له قدرة على الاحتفاظ بصورة الأشياء حتى لو غابت عن نظره، لكن حضور الأشياء أمامه تعطيه القدرة على تكوين المعاني ودلالات الأصوات التي يستمع إليها، ويعتبر هذا ضروريًّا لظهور المرحلة الكلاميَّة، فمثلا لا يستطيع أن يعبر عن مفردة الماء وعطشه ما لم يكن قد شكّل ذهنه صورة مسبقة عن الماء ومستقلة، ويمكن أنّ نسمي هذه المرحلة عنده ببداية مرحلة الفهم، تتطور هذه القدرة في السنة الثانية من عمره؛ لذا يقال إنّ فهم الأطفال لمدلولات الألفاظ يسبق قدرتهم على تقليد الأصوات، فالطفل يفهم مدلول كلمة "رأس" و"عين" و"يد" وغيرها من الألفاظ التي تتردد على مسامعه بكثرة؛ ولكن لا يلبث أن ينطلق من عقاله ويبدأ في تقليد أصوات الكبار ومحاولة نطق الكلمات التي تلقن له أو يسمعها في محيطه اليومي بشغف ومتعة كبيرة.

إدراك الطفل للدلالات في هذه المرحلة ناقص أو قاصر، فربما يسمع كلمة كرسي ويرى شخصًا جالسًا عليه فيفهم أنّ كل ما يُجلس عليه هو كرسي؛ فإذا رأى شخصا جالسًا على حجر مثلا أو مُدرّج أو صندوق خشبي يمكن أن يسمي ذلك كرسي أيضا؛ لأن مفهوم كلمة كرسي ارتبط عنده بعموم الجلوس لا خصوص الشكل. ويمكن أيضًا أن يسمع بكلمة حمامة ويراها تطير أمامه فترتبط عنده بمفهوم الطيران، فإذا رأى ببغاء تطير أطلق عليها مسمى حمامة أيضًا. ولا خوف عليه من هذا التضارب فعملية التعميم هذه يحاول بها الطفل الوصول إلى كنه الأشياء ومحاولة تلمس وجوه الاختلاف بينها.

بعد زمن قليل يميز الطفل بين المفرد والجمع أو القليل والكثير ولكنّه كما يقول عبد المجيد الطيب في كتاب "منزلة اللغة العربية" يتعثر في الأعداد زمنا طويلا، وربما يخلط بين الألوان فلا يستطيع التفريق بين اللون الأحمر والأخضر مثلا، كما يواجه صعوبة أخرى في الألفاظ المتقابلة أو المتضادة مثل "فوق/ تحت" "كبير/ صغير" "شمال/ يمين". ويواجه صعوبة أحيانا في التفرقة بين الحروف المنقطة المتشابهة فلا يستطيع التفرقة بين حرف الثاء والتاء مثلا أو الباء والنون أو الدال والذال وخلافه.

كذلك يواجه صعوبة في فهم الكلمات التي تتضح دلالاتها بناء على السياق فمثلا تصعب عليه التفرقة بين "صاحب العربة" وكلمة "صاحب" بمعنى صديق، كما تختلط عليه الطفل لاسيّما ما بين الثانية والثالثة الضمائر فلا يستطيع التفريق بين "أنا" و"أنت" وربما تختلط عليه دلالات التأنيث والتذكير.

ترتبط دلالات الأشياء في ذهن الطفل في مراحله الأولى بتجاربه السابقة والبيئة التي حوله، فالطفل الذي نشأ في مزرعة بجانب البقرة يدرك من دلالة لفظ "بقرة" ما لا يدركه طفل آخر يعيش في المدينة بعيدا عن الحيوانات؛ لذا يشدد أهل التربية على التعلم بالنماذج والتجربة، فلا يستقيم أن تشرح دلالة كلمة بقرة دون أن يشاهدها التلميذ سواء عيانًا ملموسة أو مشاهدة متحركة على أسوأ الفروض.

ببلوغ الطفل السنة الخامسة ستكون حصّالته اللغوية قد جمعت ما يقارب الألفي كلمة، ويتوقع منه في هذه المرحلة أن يتقن نطق الأصوات اللغوية، وأن تختفي عنده الأخطاء اللغوية السابقة، مثل النطق الطفلي لبعض الكلمات أو إبدال بعض الحروف.

اختلف العلماء في قضيّة اكتساب الطفل للغة، فأصحاب النظرية المعرفية يرفضون أن يكتسب الطفل لغته من خلال التقليد والمحاكاة بل من خلال التجريب ومحاولة الابتكار، فتشومسكي مثلاً في نظريته حول اكتساب اللغة جعل الطفل جهازًا أو صندوقا تصله المُدخلات اللغوية، ومن ثم يستنبط منها الطفل نفسه القواعد والقوانين؛ أي أنّ اكتساب اللغة قائم على اكتشاف الطفل لأصول وقواعد لغته.

بينما يرى أصحاب نظرية التعلم الاجتماعي أنّ التقليد هو الأساس في تعلم اللغة واكتسابها، وحجتهم في ذلك أنّ الابتكار في هذه المرحلة رهين بإصرار الطفل على تأكيد ذاته والكفاءة؛ وهما أمران يصعب تحققهما في السنين الأولى من عمر الطفل، وربما لا يتأتيان في كل طفل لاختلاف الفروق الفردية بين الأطفال، هذا بجانب تأثير المستوى الثقافي والتعليمي للأم والأسرة على الطفل؛ ويتفق هذا الرأي مع تصور "بياجيه" عن النمو اللغوي للطفل ما بين سن الثانية إلى السابعة والذي قال فيه إنّ الطفل في سنينه الأولى يحاول اكتساب مهارة الكفاءة اللغوية من خلال التقليد والاستنتاج، فإذا قيل له هات الملعقة ووعي ذلك سيصبح قادرًا حينها على قول هات القلم وهات المسطرة وغيرها. وهذا قريب من قول مكنمارا حين قال: إن اللغة اندماج بين الخارج المُصغى إليه أي المُرسِل وبين الداخل المُفكّر فيه أي المتلقي.