جدليّة الموت والحياة.. نظرات في القرآن


محمد عبد العظيم العجمي | مصر
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) (الكهف).. هكذا يرى القرآن رحلة الحياة والموت "فأصبح" أي كأنها عشية أو ضحاها، وهكذا كل معمر في الحياة.. حتى الحضارات والمدن والقصور والدهور، يسري عليها قانون الحياة والموت.. تولد ثم تزدهرثم تحول إلى زوال :
لكل أمر إذا ما تم نقصان *** فلا يغتر بطيب العيش إنسان
 وإن أخذت كل حضارة زخرفها وازيَّنت، وظن أهلها بما فتح عليهم من العلم والفن والقوة، ظنوا أنهم قادرون عليها، فيأتي أمر الله فتصبح حصيدا كأن لم تغن بالأمس.. ويطوى كل "حادث" في الحياة مهما عظم أو حقر، أو علا أو وضع ، لا يخرج كائن عن هذا التفصيل القرآني الذي أوجز لهذه الحقيقة،، يصبح الإنسان فيها ويمسي متفكرا، وهو في كلا الحالين يتقلب "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) الروم .
وكما يرى القرآن رحلة الحياة والموت، فكذا يراها من يرحلون بأنفسهم وأرواحهم إلى ربهم، وإن تركوا أجسادهم تلامس أسباب الحياة بما قدر لها أن تقضيه من الأجل، إلا أن هذه الأرواح معلقة بما ينتظرها عند ربها فلا يغيب عن خلدها، ولا تأل من ذكره حتى تلاقيه عين اليقين، وقد عاينته في الدنيا (علم اليقين).. كما يقول ابن الفارض:
روحي للقاك يامناها اشتاقت*** والأرض على كاحتيالي قد ضاقت
والنفس لقد ذابت غراما وجوى***في جنب رضاك في الهوى ما لاقت
جلس الشيوخ يوما في مسجد بغداد وقد فاض كلٌّ بما عنده، وكان (الجنيد) - رحمه الله - أصغرهم سنا، فقالوا: هات ما عندك ياعراقي، فقال: "عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه.. أحرقت قلبه أنوار هيبته، وصفا شربه من كأس مودته، وتجلى له الجبار من أستار غيبته.. فإذا نطق فبأمر الله، وإذا تكلم فعن الله، وإذا سكت فمع الله.. فهو لله وبالله ومع الله .. ".
أحيانا يتبادل الموت والحياة الأدوار وإن ظل كل على شاكلته التي نعرفه عليها، فتغدو الحياة موتا في حقيقتها، وإن تدفقت الأنفاس شهيقا وزفيرا، إلا أن الأرواح مقبورة في الأجساد التي لا تبالي "لماذا خلقت؟ومن الذي خلق؟!!، أو لم تصغ أسماعها إلى ما فيه الحياة والروح الحقيقية التي أفاض الله بها على عباده، لينقل الإنسان من واقع العبودية المشتتة (لغير الله) ، إلى العبودية الحقة التي تسمو به من درك الطينية الأرضية إلى معراج النورانية الإلهية " وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)" فاطر،" أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)"النحل، فهذه الأسماع المضروب على آذانها، وهذه الأبصار على أعينها الغشاوة ، وهذه الأرواح المدفونة في الأجساد قبل انتهاء أجلها .. أنى تحيا !! وقد صرفت عن معين الوحي وروح الذكر الذي فيه حياة القلوب" وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)"الشورى.
فللروح حياة وللقلب حياة، وللبدن حياة، وما حياة الأبدان بدون حياة القلب والروح إلا كحياة الأنعام بل هي أضل، " وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)" محمد، وما الحياة الضاربة إلى أجل بمعنى للحياة، حتى وإن ظلت على وجه واحد وحال من النعيم المقيم الذي لا يفارق إلا بالموت، فيكفيها غبن الفناء، فكيف وإن تبدلت وجوهها كل يوم وتغيرت من طور إلى طور ، ومن نعيم إلى شقاء، ومن عزة إلى ذلة، ومن صفاء إلى كدر.
وقد أدرك هذا النقص وفهم عن الحياة أصحاب الفكَر ولو لم يكونوا من أهل الإيمان، كما أدركها أهل الإيمان المتفكرون فألقوا عن الكواهل كل ما يثقل السائر ويشق على المسير، ويطيل الطريق، كما هام فيها أتباع الهوى واغتروا بما لقوا فما أدركوا لذة نعيم الدنيا وقد فاتهم حظ الفوز في الآخرة، ومن لم يدرك النعيم الأول فلن يشهد النعيم الآخر "وأوتوا به متشابها"..
وقد يجعل الله لبعض أصفيائه ذكرا في الآخرين وقد أُلحدت أجسادهم في ظلمات القبور، وغيبت في تراب الأجداث إلا أن لسان الصدق وطيب الذكر لا ينقطع بانقطاع الحياة الدنيا.. وهذا هو ما علمه المقربون المطهرون فدعوا به ربهم "واجعل لي لسان صدق في الآخرين"، "واذكر في الكتاب ... الآيات" من سورة مريم، فتدوم الحياة ويبقى الذكر وإن حلَّت الأجساد بعالم القبور، فالذكر يبقيها عمرا ثانيا:
" فرُبَّ حَي رُخام القبر مسكنه*** ورُبَّ ميت على أقدامهِ انتصبا"
سأل عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه) أحد جلسائه موعظة.. وكان لا يجالس إلا أهل العلم والتقى والورع، فقال: "يا أمير المؤمنين.. بنى ملك مدينة وأكمل بناءها، ثم جعل جائزة لمن يأتيه في هذا البناء بعيب، فجعل الناس يطوفون بها ويعجبون.. حتى جاء رجلان فطلبوا مقابلة الملك ليأخذوا الجائزة على ما وجدوا فيها من عيب.. فلما مثلا بين يدي الملك، قال: هل وجدتم عيبا في مدينتي؟! قالوا: بل وجدنا فيها عيبين اثنين، قال: وما هما ؟! قالا: أما الأول: فإنها تفنى، وأما الثاني: فإن بانيها يموت، قال الملك: وهل هناك دار لا تفنى وبانيها لا يموت؟ قالا: نعم، قال: وما هي؟ قالا: الجنة، فخلع الملك ثياب الملك ولبس الخيش وقال: خذوني إليها.
وهنا بكى عمر بن عبد العزيز وأصر أن يخلع ثياب الملك، وأن يرحل إلى الله بطلب الجنة.. حتى أخذ العلماء يثبتونه على الأمر ويقولون: يا أمير المؤمنين.. إن الله قد عقد أمر هذه الأمة بك، وإنك إن تركته انفرط عقده، وضاعت الأمة.. وما زالوا به حتى رجع عن عزمه.
يفرق القرآن كذلك بين العيش والحياة، وإن بدا لنا كثيرا من التماثل بين الشكلين.. لكن الحياة بمفهومها الحقيقي هي كما يريد الله لعباده أن يحيوها في ظلال المنهج القويم والصراط المستقيم "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)" سورة النحل
فهي أولا حياة بالمعنى الذي أراد الله لعباده أن يحيوها في ظل عبوديته، ثم هي طيبة بما أسلموا فيها أمرهم إلى الله خالقهم ولم يصرفوا شيئا من شئون العبادة عظيما أو يسيرا، إلا إلى المعبود الحق "إياك نعبد وإياك نستعين"، ثم أخبتت قلوبهم بعد هذا التسليم والعمل إلى ربهم فكان جزاؤهم بما علموا وعملوا من الحق من ربهم أنْ هداهم إلى صراطه المستقيم، وما ترتَّب على الاستقامة على هذا الصراط من طيب العيش وبسط الرزق والبركة والطمأنينة مع الذكر، واليسر بعد العسر ، ولذة المناجاة، وإصلاح الذرية والولد، ورفع الدرجات في الدنيا والآخرة والقناعة بما رزق الله، والثقة فيما عند الله أكثر مما يثق المرء فيما بين يديه، والمسارعة إلى رضا الله.
أما الحياة الأخرى: فقد سماها القرآن "معيشة" وذلك لخلوها من حقيقة الحياة وغياب حقيقة الروح فيها، مما أفقدها هذا النبض وإنْ دبَّتْ أقدام المسير على أرض المعاش، وضرب الإنسان بوجهه في كل وجهة هو موليها، إلا أن المعيشة لا تزال"ضنكا" كما سماها القرآن "وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)"سورة طه.
والمتأمل للمعنى قد يظن أن هذا الضنك يكون من جراء فقد الأسباب، إلا أن الأسباب قد تكون متحققة، وقد تكون غير مُحقَّقة، غير أن ما يريد الله لعباده وبعباده لا تعوزه الأسباب، ولا تحوله.. إنما المنع والمنح والسلب والعطاء إرادةٌ ربانيّة خالصة لا تتوقف على الأسباب، ولا تُحسَب الأسبابُ إلا من مباشرة الإنسان في استعمالها في ممارسات الحياة، أما الخالق فهو قد يعطي النعمة ويسلب التمتع بها، ولذلك ذكر في آية "ونعمة كانوا فيها فاكهين" والنَّعمة بفتح النون هي امتلاك النِّعمة مع امتلاك أسباب التمتع بها، وقد يعطي النِّعمة ثم يجعلها شقاءً على صاحبها، حتى لو تحقق التمتع في غير مصاحبة الطاعة فما هذه المتعة في النهاية "إلا متاعُ الغرور".
فالفهم القرآني إذا قد لا يتفق مع نظر كثير من الناس لحقيقة الحياة والموت، كما لا يتفق مع نظر الكثير أيضا لمفهوم المتعة والشقاء، والإهانة والكرامة.. وكما جاء ينسف عقائد الأولين الباطلة ويقيم مكانها "الدين الحق"، فإنه يؤصل كذلك لهذه المفاهيم التي الْتبَسَ على الناس فهمُها فخلطوا بين الزيف والحقيقة، ودعوا بالشر دعاءهم بالخير.
ولا تُحَقُّ الحقائق، وتُزهَقُ البواطل إلا بالعلم، وهذا هو خلاصة الفهم وفصل المقال، "وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)" سورة العنكبوت.

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك