سعيدة خاطر وتناصات الوجع

 

 

محمد علي العوض

 

قبل آلاف السنين سبق عنترة بن شداد الجميع في تقديم وجهة نظر نقدية حول تناص النص مع نصوص أخرى حين قال:

هل غادر الشعراء من متردم

أم هل عرفت الدار بعد توهم

وكأنّه عنى ما قاله محمد مفتاح بأنّ "التناص لا مناص منه" وأنّ النص جزء من العالم لا يُمكن عزله من التأثير علينا؛ فكل نص هو تناص أو انعكاس لنصوص أخرى تتراءى فيه بمستويات متفاوتة وبأشكال محددة؛ إذ هو نسيجٌ من المقبوسات ناشئ عن ألف مصدر ثقافي.

يُعد التناص واحدًا من الموضوعات الحديثة في مكتبة النقد العربي؛ ولعلّ الباحثة الفرنسية "جوليا كريستيفا" أول من ابتكر ذلك المصطلح بقولها إنّ "النص ترحال للنصوص وتداخل نص في فضاء نص معين..." وربما اقتبست ذلك من أستاذها الروسي "باختين" رغم أنَّه لم ُيسمِ المصطلح صراحة لكنّه أشار إليه في حديثه عن مفهوم الحواريّة أو تعدد الأصوات والحوارات. وسمّاه من جاء بعد "كريستيفا" بمسميات مختلفة؛ فـ"لورانجيني" يسميه التحّول أو التمثل، و"يوري لوتمان" أطلق عليه "التخارج النصي" بينما يرد عند "جيرار جينت" بمسمى "التعالي النصي أو التداخل النصّي" وأحيانًا يورده الباحثون بمسميات مختلفة مثل التوظيف حين توظف نصًا داخل نص آخر، أو الاقتباس أو التضمين أو التأثر كما عند سعيد يقطين.

لغة؛ التناص هو دخول نص في نص، أمّا اصطلاحا ونقدًا فهو "علاقة ما بين نص حاضر ماثل ونصوص أخرى سابقة أو معاصرة" كما عرفه سعيد علوش في "معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة". وبحسب "كاظم جهاد" في "أدونيس منتحلا" "التناص هو تقاطع عبارات مأخوذة من نصوص أخرى" وعرّفه الغذامي بأنّه: "نص يتسرّب إلى داخل نص آخر يُجسِّد المدلولات سواء وعي الكاتب بذلك أم لم يعِ"..

ويتضح مما سبق أنّ "التناص" هو أن يتضمّن نص أدبي ما نصوصاً أو أفكارًا أو معارف أخرى سابقة له. وله آليات وتقنيات وأنواع مختلفة منها "التناص الأدبي" و"الأسطوري" و"التاريخي" و"الشعبي" وكذلك "التناص الديني" الذي يعني -ببساطة- أن يُضمّن الشاعر لغته الشعرية بعضًا أو كثيرًا من النصوص المقدسة؛ وتوظيفها في صورة مفردات أو معاني أو تراكيب تخدم المعنى الشعري وتعمق الفكرة.

سعيدة خاطر واحدة من شعراء مجيدين سعوا للإفادة من النص المقدس بوصفه خطابا أدبيا يتسنم ذروة البيان والفصاحة ويضفي على الخطاب الشعري سمة الصدقية، هذا بجانب توظيفها للتراث النبوي والنص الشعري القديم بما يُجلي الصورة الشعرية، ويمدّها بإكسير البقاء وحضوره في ذهنية المتلقي؛ الذي يحاول كشف هذه العلاقة التناصيّة بالاعتماد على ذخيرته المعرفيّة وثقافته.

ويُقابلنا هذا التناص في كثير من أشعارها لاسيّما في قصيدتي "أين عصاك يا موسى؟" و"أسئلة غبية"، اللتين تثير فيهما الشاعرة أسئلة قلقة مستنكرة، نابعة من تلافيف روح مفجوعة بإرهاصات الواقع الذي تسعى لتغييره، وعبر صور شعرية مسيجة ببنية التناص الحقيقي والمعنوي؛ خالقة بذلك لغتها ورؤاها الخاصة وكونها الشعري المستقل.

ففي قصيدة "أين عصاك يا موسى؟" تستلهم سعيدة خاطر روح النص القرآني وتوظّف عصا موسى التي يهش بها على غنمه وله فيها مآرب أخرى:

أين عصاك يا موسى...

تلك التي ينصع منها اليقين

وتهش بها على غنم سمان

وفي قصيدة "أسئلة غبية" التي يمثل الملفوظ الشعري لعنوانها جزءًا من البنية العامة للقصيدة يحيلنا الحقل اللغوي فيها إلى شعور نستشفه في روح الشاعرة وما يعتلج في دواخلها من حزن على التشرذم العربي، وتمزق فلسطين ما بين فَلَسٍ وطين، ونلمح في صورها المتراصة الأنين والقهر والموت متثائبًا متمددًا في شوارع حواضرنا العربية بعد أن غدا الدم العربي رخيصا مهدورا:

بغدادُ دمشق صنعاءُ

مدنٌ.. وحده الموتُ يتثاءب فيها

ترفض بنت خاطر الأسئلة الغبية، والتغابي عن المعلوم بالضرورة؛ فمن جملة خمسة محاور ناقشتها القصيدة تخصص الشاعرة محوري الاستهلال والخاتمة لرفض هذا التغابي وذمّه؛ فالعلة مُسببة، والسؤال عنها يفتح ألف باب وباب من الوجع؛ فالجُناة الذين خذلوا الصف العربي وباعوا دمه رخيصًا معروفون على رؤوس الأشهاد، ولكن لا حياة لمن تنادي، فالجميع غارق في حكمة الوحل:

لا تسألني كم حاصل التشرذم العربي

إنهم يمتهنونَ

حكمةَ الوحلِ

ومنذ مبتدر القصيدة تستدعي سعيدة خاطر روح أمل دنقل وكلماته على لسان سبارتكوس حين هتف للشيطان:

 المجد للشيطان.. معبود الرياح

من قال "لا" في وجه من قالوا "نعم"

وتُطوّع الشاعرة هنا ظاهرة بلاغية قرآنية هي إيراد الكلام الذي ظاهره المدح وباطنه الذم؛ فتتهكم من الغباء عبر تمجيده بقولها:

المجدُ للأغبياءِ..

فاكنزْ غباءَك في الخواءِ..

واغمسْ شعورَكَ في الأنين

فقد تهكّم المولى عز وجل من الآثمين بقوله: (إنّ شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ذق إنك أنت العزيز الكريم) وقوله (إنك أنت العزيز الكريم) مدحٌ يراد به التهكّم بمن كان يتعزز ويتكرّم على قومه..

وتنسج سعيدة خاطر كل أقسام التناصّ؛ من تناص موافق إلى تناص مضاد إلى تناص محور ومجزوء، ببراعة متناهية استندت فيها إلى أفكارها وثقافتها المستمدة من النص القرآني، مع تنويعٍ في أشكال التناص؛ فتارة نجد تناصًا مع المفردة القرآنية، وتارة أخرى مع التركيب، ومرة مع المعنى القرآني العام، فتركيب (لعنَ اللهُ) في:

فالأسئلةُ سريرُ الفتنةِ..

لعنَ اللهُ من سحبَ غطاءَها

يتناص مع الحديث النبوي "الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها" وكذلك يتناص تركيب "قلب سليم" في:

لا تسألني كم حاصل ِطرحِ المتخاذلين

إلا من له قلب ٌسليمْ

هل تسألنُي كم حاصل قسمة الموت!؟

مع الآية (إلا من أتى الله بقلب سليم) والقلب السليم هو النقي من الدنس والنفاق، فالشاعرة هنا تقرأ البيت في ظل مناخ خذلان الخونة المنافقين للمستضعفين الأنقياء المحتلة أراضيهم، والذين يجابهون الموت وحدهم دون نصير ورحمة. وفي مقاطع:

في كلِّ سؤالٍ مئةُ وجعٍ

تُبعثرُ الغارسَ والمغروسَ كيف تشاء

تجري الشاعرة تناصا تركيبيا مضادا، يحيلنا من حيث التركيب إلى الآية (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ...) ويحيلنا من حيث التضاد إلى الفرق بين صورة الشاعرة والصورة القرآنية، فصورة الشاعرة نابضة بالوجع والحزن بينما تبشر الصورة القرآنية بالأجر الكبير لمن أنفق في سبيل الله والذي يصل لسبعمائة ضعف عند الخالق عز وجل. وحين تقول:

أجل يا إلهي لعنَ اللهُ وسوسةَ الخناسْ

المجدُ للأغبياءِ على هذه الأرض

فاكنزْ غباءَك في خَواءِ الرأسْ

نردد معها سورة "الناس" ونستعيذ من الوسواس الخنّاس الذي يوسوس في صدور الناس.. وتتداخل مقاطعها:

حتى سجلَ نشاطها الشبحي

أصفارا في مرمى النواطيرِ..

النائمةِ عن كرومِها

والثعلبُ اللعينْ

متربصٌ بنصفِ عينْ

مع ما أنشده المتنبي (نامت نواطير مصر عن ثعالبها ** فقد بشمن وما تفنى العناقيد) حين هجا كافور الأخشيدي في قصيدته المشهورة، ومارست الشاعرة هنا آلية التمطيط والشرح في تناصها، حيث لم تدلف مباشرة للمعنى كالمتنبي؛ بل منحتنا مقدمة بتركيب "حتى سجلَ نشاطها الشبحي أصفارا..." وكأنّها تقول إنّنا لم نطلق رصاصة واحدة ضد العدو والثعلب المتربص بنا من خلف الحدود، بل صوّبنا سلاحنا نحو صدور بني جلدتنا.

وبتناصها مع قول المتنبي تشير سعيدة خاطر ضمنًا إلى "تزامنية" الخواء الأبدي؛ فوجع التخاذل ما زال مقيمًا فينا منذ مئات السنين؛ حتى أضحى ظاهرة دياكرونية تنتج نفسها كل حين.