تشتت القرار وتأثيراته على التنمية

 

د. سيف بن ناصر المعمري

لا نبالغ إذا قلنا إنّ من أصعب الأشياء لدينا هي فهم آليات اتخذ القرارات ومصادرها، وهذه الإشكالية تلقي بظلالها على مسار التنمية والإشكاليات التي تصاحبها، وآخر هذه الإشكاليات هي ملف الباحثين عن عمل، ففي الوقت الذي كان الجميع يتطلع إلى مؤسسات التشغيل والتوظيف ممثلة في وزارتي الخدمة المدنية، ووزارة القوى العاملة وإلى مجلس الشورى إلى اتخاذ قرارات متعلقة بمعالجات آنية وطويلة المدى، انتظر الجميع كثيرًا هذه المؤسسات لكي تعلن عن رؤيتها وقراراتها ولكن ذلك لم يحصل.

وانقسم المتابعون حيال ذلك إلى فريقين: الأول دافع عن هذه المؤسسات وعن عدم كونها مركزا لاتخاذ قرار حيال هذه الإشكالية التي تدخل ضمن اختصاصاتها ومسؤولياتها وطالب بعدم تحميلها مسؤولية هي لا تملك أدوات القيام بها، أمّا الفريق الآخر فذهب إلى لوم هذه المؤسسات بشدة لعدم نهوضها بمسؤولياتها مما قاد إلى تداعيات تمثلت في تراكم عدد الباحثين عن عمل وعدم فتح فرص عمل لهم. وهذا الاختلاف في وجهات النظر يشير إلى إشكاليات في القرارات الاستراتيجية وعدم ارتباطها بالمؤسسات كما يفترض وكما يفهم البعض، مما قاد إلى تشتت في فهم المتابعين للمراكز المعنية بحل هذه الإشكالية أو غيرها. وأكّد إقرار مجلس الوزراء إنشاء المركز الوطني للتشغيل ذلك، وبالتالي انعاكسه على مسار التنمية، وهو ما يدفعنا إلى الاستنتاج والقياس على تشتت القرار المتعلق بمعالجة، وتعزيز حراك ملفات أخرى اقتصادية وتعليمية وثقافية واجتماعية.

والسؤال الذي أود أن أطرحه وآمل أن يحظى بالتأمل والتفكير هو: ما مخاطر هذا التشتت على تعزيز بناء دولة المؤسسات؟ وأيضا هل ستتم معالجة الملفات الأخرى على غرار معالجة ملف الباحثين عن عمل من خلال إنشاء مراكز وطنية بعضها لتطوير السياحة، والبعض الآخر لتطوير الاستثمار، وثالث لتطوير التعليم، وآخر لتطوير الحركة الثقافية؟ وما مصير لجان التنسيق الحكومية المختلفة التي تملأ الخريطة الحكومية، وتتكاثر وتتوالد أكثر من تكاثر القرارات والحلول التي تحتاجها الملفات التي تعمل على تسييرها وحل الإشكاليات التي تواجهها؟

لم يكن هناك وقت أكثر من الآن نشعر فيه بأن القرار التنموي ليس بالسهولة التي نتصورها، من الناحية النظرية أو العملية. فمن الناحية النظرية توجد في البلد دائما مؤسسات معنية بمسؤوليات معنية وقرارات معينة تعمل على اتخاذها دون تدخل من أي جهة تحقيقا لوجود فكرة دولة المؤسسات. أمّا من الناحية العملية فلابد من ارتباط القرارات بمؤسسات معينة حتى تكون هناك مرجعية للمتابعة والتقييم والمحاسبة، لأنّ تشتت القرار في أكثر من جهة دون وجود مرجعية جعل كثيرا من متخذي القرار يخرجون ليعلنوا أنّ التأخير والإعاقة لأي قرار ليست منهم، إنّما من المؤسسات الأخرى الشريكة معهم. وهكذا فعل الآخرين مثل فعلهم، وتبنوا مواقفهم، وبدلا من الانشغال بالقرارات انشغلنا بمراكز القرارات ومبرراتها. وما ظهر من مواقف في ملف الباحثين عن عمل ظهر في العديد من الملفات في السنوات الماضية، وفي النهاية يتخذ القرار من مكان آخر غير مكانه الطبيعي.

والسؤال: إلى متى ستظل القرارات تصدر من مكان آخر غير أماكنها، ومن مؤسسات أخرى غير مؤسساتها؟ هذه الأسئلة تؤكد أنّ النهج الذي مضت عليه عملية اتخاذ القرار التنموي وتشتتها لها ضريبة باهظة، وتحدث آثارًا عميقة مستقبلا، فالدولة لم تعد كالسابق، ولا الاحتياجات والإشكاليات وتعقدها أصبحت كالسابق، وينبغي أن نراجع هذا النهج حفاظًا على مصالحنا الوطنية، وتحقيقاً للحيوية والسرعة والمرونة التي تتطلبها عمليات اتخاذ القرار الآن، وأيضا تكريسا لنهج دولة المؤسسات التي تمضي وفقه دول العالم؛ حيث تربط القرارات بمؤسسات لا بأفراد مع عدم إنكار الدور الفاعل للشخصيات القيادية التي تتباين في مهاراتها القيادية وحسن إدارتها، ولكن ما لم ننجز تمنياتنا بنهج مؤسساتي فنحن ماضون إلى مزيد من تشتيت القرار، ومزيد من تهميش المؤسساتية كنهج تنموي توظفه دول العالم المتقدمة.

ومن ناحية أخرى، تشير مسألة تشتت القرار إلى أهمية تقييم ومراجعة عمل لجان التنسيق المشتركة بين مختلف المؤسسات، خاصة تلك التي ترتبط بملفات استراتيجية للتنمية، للتعرف على أسباب عدم قدرة هذه اللجان والمجالس على تحريك معالجات لهذه الملفات، هل ذلك نتيجة لعدم ترأسها من قبل شخصية لها صلات واسعة ونفوذ، وقبول من مركز اتخاذ القرار الأكبر يتيح لها التواصل بسرعة، والحصول على الدعم بسهولة، وإقناع بقية المؤسسات بسهولة، والحصول على مصادقة للقرارات بدون معارضة؟ وهذا سؤال مطروح دائمًا. وإن كان الأمر كذلك فلما إذن تجعل قيادة هذه المجالس واللجان لمتخذي قرار لا يتمتعون بهذه الخصائص والسمات التي تتيح للجانهم ومجالسهم أن تعمل بشكل جيد. ومن ناحية أخرى ماذا لو كان من يحظون بمثل هذه الميزات من متخذي القرار لكنهم لم يتمكنوا من اتخاذ القرارات الضرورية في الملفات الملحة؟ إذن نحن أمام مسارات لاتخاذ القرار التنموي والبعد به عن التشتت، إما الاستناد إلى قوة الأفراد وسلطاتهم ونفوذهم لإنجاز التنمية أو الاستناد إلى سلطة المؤسسات، وعلينا أن نختار النهج الأكثر نجاحا، ولنمضي فيه، فلكل مجتمع خصوصيته التي تنبثق منها إدارته لمركز اتخاذ القرار.