القرار ليس بيدك

خالد بن حمد الرواحي

 

في زمن الذكاء الاصطناعي، لا يُنتظر منك أن تقرر... بل أن تُتَوقَّع.

الذكاء الاصطناعي لا ينتظر أوامرك... إنه يصدرها.

تخيّل نفسك تتقدَّم لفرصة عمل تحلم بها. تضغط زر "إرسال الطلب" بكل حماس، وتنتظر الرد... لكن الرفض يأتيك سريعًا، بلا تفسير، ولا حتى مبرر. لم يرفضك مدير أو لجنة. من فعلها؟ خوارزمية لا تعرف اسمها، قرأت بياناتك، حلّلت مسارك المهني، وربما حكمت عليك لأنك غيّرت تخصّصك قبل أربع سنوات. لم تُمنح فرصة لشرح نفسك؛ لقد سبقتك بياناتك... إلى إصدار الحكم.

في عالمٍ تحكمه الخوارزميات، لم يعد الإنسان هو اللاعب الوحيد على طاولة اتخاذ القرار. لقد أصبحت بياناتنا تُحلَّل، وتُفسَّر، وتُوظَّف، أحيانًا قبل أن ندرك نحن ما نُفكّر فيه. تزور مدينةً جديدة، فيقترح هاتفك تلقائيًا أقرب مطعمٍ تفضّله، وتفتح تطبيقًا مصرفيًا لتكتشف أن توصية الاستثمار قد اختيرت مسبقًا... وفق تحليل سلوكك السابق.

فمن يملك التوجّه إذن؟ أنت، أم بياناتك؟

الخوارزمية تُشبه ظلًّا لا تراه؛ تسبقك إلى كل بابٍ تطرقه، وتقرّر إن كنتَ تستحق أن يُفتح لك. وما كان يُروى سابقًا كأمثلة خيالية، بات اليوم واقعًا ملموسًا في حياتنا اليومية. ومع دخول الذكاء الاصطناعي قطاعاتٍ متعددة في السلطنة -من التوظيف والتعليم إلى التخطيط المالي والرقابة- بات من الضروري أن نتوقف قليلًا لنتساءل: هل ما يُقدَّم على أنه "أداة ذكية" يمكن أن يكون أحيانًا "حاكمًا غير مرئيًا"؟

وفي ضوء هذا التقدّم، تُستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات التنبؤية اليوم في توجيه اختيارات حاسمة، من اختيار الكفاءات إلى الرقابة إلى تقديم الخدمات العامة. لكن، وللإنصاف، لا يمكن أن نغفل عن الوجه المشرق لهذه الأدوات. لا يمكن إنكار ما جلبته من تحوُّلٍ هائل في دقة التنبؤ، وكفاءة الأداء، وسرعة الحسم في قطاعاتٍ حيوية، مثل الصحة، والخدمات، والتخطيط المالي. بل إن الذكاء الاصطناعي بات أداةً لا غنى عنها في مواجهة التحديات المعقَّدة التي يعجز الإنسان عن التعامل معها وحده، خاصةً عند تحليل كميات ضخمة من البيانات في وقتٍ قياسي، تمامًا كما تفعل منصات التسوق حين تقترح عليك منتجًا قبل أن تبحث عنه.

ومع ذلك، يبدأ الإشكال حين تصبح هذه الأدوات صاحبة الكلمة الفصل، لا مجرَّد مساعدٍ لصاحب القرار البشري. وهنا ينبثق السؤال الكبير: من يراقب من؟ الإنسان، أم الخوارزمية؟

وقد حذّرت تقارير أوروبية متخصصة في أخلاقيات الذكاء الاصطناعي من أن بعض الأنظمة التنبؤية المستخدمة في القطاع العام قد تُظهر تحيّزات خفية تجاه فئات معينة، سواء لأسباب جغرافية أو اجتماعية أو عرقية. هذه التحذيرات تضعنا أمام معضلة حقيقية: إذا كانت البيانات قد تنحاز... فمن يُنصفنا؟

وفي سلطنة عُمان، أكّد سعادة أحمد بن علي السعدي، رئيس اللجنة التشريعية والقانونية بمجلس الشورى، أن السلطنة بصدد إعداد مشروع قانون خاص يُجرّم إساءة استخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي، في خطوة تنظيمية تهدف إلى حماية الخصوصية، وضمان الاستخدام المسؤول لهذه التقنيات، والحد من الانتهاكات الرقمية. وتُشير التقديرات غير الرسمية إلى إمكانية طرح المشروع للنقاش خلال النصف الثاني من عام 2025، في مبادرة استباقية قد تضع السلطنة في صدارة الدول الساعية إلى "حوكمة الذكاء الاصطناعي" وضمان أن تبقى التكنولوجيا في خدمة الإنسان، لا العكس.

وتشمل إساءة استخدام الذكاء الاصطناعي أشكالًا متعددة، منها: إنشاء محتوى مزيّف لتشويه سمعة الشخصيات العامة أو المنافسين، واستخدام الأنظمة الذكية في تضخيم الشائعات والبيانات المغلوطة عبر الشبكات الاجتماعية. كما تُستخدم تقنيات "التزييف العميق " (Deepfake) لتقليد وجوه وأصوات الأشخاص في مقاطع مزوّرة تُستخدم للابتزاز أو التضليل الإعلامي. وفي حالات أخرى، يتم توظيف روبوتات الدردشة الآلية (Chatbots) في حملات دعائية مموّلة لتوجيه الرأي العام.

كل هذه الممارسات تُبرز الحاجة إلى إطار قانوني صارم، يُحد من الانفلات الرقمي، ويُفعّل آليات المحاسبة والرقابة الأخلاقية على استخدام الذكاء الاصطناعي.

في هذا العالم، قد تُعاقَب لا لأنك أخطأت، بل لأنك شُبِّهت بمن أخطأ.

وفي مواقف مماثلة، قد يُرفَض طلبك لأن خوارزمية ما ربطت منطقتك الجغرافية بمعدلات أداءٍ منخفضة في السابق، أو يُقيَّم سلوكك الوظيفي بناءً على نمط حضورك فقط، دون مراعاة الظروف الشخصية أو الإنسانية. هذه الممارسات الآلية تُظهر الحاجة إلى مراجعة مستمرة للقرارات الرقمية، حتى لا تُصبح الخوارزميات بديلًا عن الفهم البشري.

نحن لا نُدين التقنية، بل نطالب بضبط استخدامها. لا نرفض الذكاء الاصطناعي، بل نُصرُّ على أن يبقى الإنسان في مركز القرار والتأثير. فالاختيار العادل ليس ما تقترحه الخوارزمية، بل ما يبقى للإنسان فيه صوت وقرار.

إذا كانت بياناتك تسبقك إلى الحُكم... فمن يملك المسار فعلًا؟

تأتي هذه التساؤلات في سياق تطلّعات سلطنة عُمان لتحقيق أهداف رؤية "عُمان 2040"، التي تُعلي من شأن الحوكمة الرقمية، والقرارات المبنية على البيانات، وتحقيق توازنٍ ذكي بين التقنية والإنسان. لكن الرؤية، في جوهرها، لا تستبدل الإنسان بالخوارزمية، بل تسعى إلى تمكينه عبر أدوات ذكية تراعي العدالة، والحوكمة، والشفافية.

وفي النهاية، يبقى الأمل معقودًا على تشريعات رشيدة، تُعيد للإنسان صوته في عصرٍ تصرخ فيه الخوارزميات أولًا.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة