الأطلال.. بسملة العواطف والذكريات

محمد علي العوض

يندر أنْ تجد في الأدب العالمي صورًا للمكان توازي أو تماثل ما أنتجته مخيلة شعراء العصر الجاهلي؛ فالمقطع الطللي الذي يبتدر به الجاهلي قصيدته لم يكن تقليدًا وبنية شكليّة درج عليها الأوائل فحسب؛ بل كان غواية إبداعيّة للدخول في خبايا النص، ومفتتحًا لتدفق الشعرية، وبسملة تزدحم فيها الصور والعواطف والذكريات، وتحضر فيها الشخوص والأحداث كما لو أنّها تتحرك أمام ناظري الشاعر.

ولم يكن الشاعر الجاهلي في تعالقه بالمكان يستنكف أن يكون مغرما بالمكان من أجل الحبيبة، أو مفاخرًا به من أجل القبيلة، أو حتى متوجسًا منه تقديسًا وخوفًا وذكريات أليمة. فالأطلال كما وصفها "عسكر" في "أساطير العرب قبل الإسلام" هي لب المكان لدى الشاعر الجاهلي، لا يفنى ولا يزول وإن غادره الأهل والأحباب، وإنّما يبقى نابضًا بالحياة في نفس الشاعر؛ ككائن حي، يتوالد من ذاته، يشيب ويهرم تحت سقف الخلود، وشحنة انفعالية عصية على النسيان برغم تقادم الأيام والسنين؛ فزهير بن أبي سلمى في معلّقته لم ينس ديار المحبوبة، حيث عرف المكان بعد غياب دام عنه عشرين سنة، شرب فيها كأس حنظل الغياب والنفي:

وقفتُ بِهَا مِنْ بعد عشْرين حجة فَلأياً عرفْتُ الدَّار بعد توَهُّمِ

فَلمّا عرفْتُ الدّار قُلتُ لِربْعِها أَلا أَنعم صباحا أَيّها الرّبعُ واسْلَمِ

وهو دالة تشي بعدة دلالات؛ منها دلالة الفقد والغياب المُتمظهرة في خطاب الشّاعر بمقدّمته الطللية التي شرّحها بن بغداد في مؤلفه "شعرية المكان في العصر الجاهلي" بأنّها قفزة على ظاهرة الغياب التّي طالت هذه الأماكن، والشاعر حين يذكر "سقط اللوى/ دار عبلة/ لخولة أطلال ببرقة ثهمد" فإنّه يمنح المكان شرعيّة الحضور والواقع:

يا دار عبلة بالجواء تكلّمي ** وعِمّي صباحا دار عبلة واسلمي

فالشاعر حين يعمد إلى أنسنة المكان وتشخيصه كائنًا حيًا يدرك ويتنفس ويتكلم فإنّه يعبر عن حالة غياب يعيشها، وكأنّه بهذا يبعث في المكان ما غاب عنه من حركة وأحداث، وينقل فيه الصورة - بوصفها أبهى تجلٍ للتجربة الشعرية- من المستوى الواقعي إلى المستوى المتخيل، فتجيء مزيجًا من الفن والإحساس والشعور، وكفيلة بتحريك الخيال، وحشد الرؤى على منوال ما قاله عنترة في قصيدة (يا دار هند):

ولقد حبست بها طويلا ناقتي ** أشكو إلى سفع رواكد جثم

يا دار عبلة بالجواء تكلمي ** وعِمّي صباحا دار عبلة واسلمي

وعنترة حين ينادي دار عبلة صائحا بحرف النداء "الياء" فإنّه بذلك يكشف عن مدى قرب المكان من نفسه الشاعرة بتحويله من حالة الجامد والسكون الأصم إلى حالة حركة الفاعل الإنساني، كما فعل الأعشى في تصويره للطبيعة:

ما روضةٌ مِن رياض الحَزَن مُعشبةٌ خضراءُ جاد عليها مُسْبِلٌ هَطِلُ

يُضَاحِكُ الشمْسَ منها كوكبٌ شَرقٌ مُؤزرٌ بعميم النبت مُكتهلُ

في لقطة تصويرية للتعبير عن مدى جمال تلك الأرض، بأنسنتها؛ والأنسنة هنا استحضار للمكان واستنطاق له عبر إخراجه بأداة اللغة عن طابعه الحسي المادي إلى الطابع الجمالي انطلاقا من موقف استيطيقي خاص عبر تشبيه الروضة الغناء بالشخص الذي لبس إزارا مسبلا، ثم تشبيه النبات في تفتحه على الشمس بالإنسان الضاحك في البيت الثاني؛ فصفة الضحك قاصرة على النبات لا الإنسان.

وربما تستصرخ الأطلال في الشاعر أحاسيس الجدب والفناء بعد رحيل الأنثى التي كانت تهب المكان دفقة حياة وعلامات وجود:

لِمَن طَللٌ بوادي الرملِ بالي ** محتْ آثاره ريح الشمال

وقَفتُ به ودمعي من جفُوني** يفيض على مغانيه الخَوالي

 

وتدخل الشعراء في دوامة من الحزن، والبكاء والعويل كما عند امرئ القيس:

قفا نبكي من ذكرى حبيـبٍ ومنْزِلِ ** بسقْط اللَّوى بين الدخولِ فحوملِ

 

وتارة أخرى تشي تلك الأطلال بدلالة الأصالة والجذور الضاربة في عمق التربة والمكان، فالأماكن هي رديف الأصالة، والقبيلة مرجعية جوهرية يقوم عليها البناء القيمي في المجتمع الجاهلي كقول امرئ القيس:

أمِنْ ذِكر نبْهانيّة حَلّ أهلها ** بجزْعِ المَلا عَيْنَاكَ تبتدران

 

وأحيانًا يذكر الشاعر ديار قومه، وهي قفر خاوٍ على عروشه بسبب الحروب وحياة السلب والنهب التي كان يعيشها العربي القديم، فيبكي ويتحسر على ذهاب تلك الأيام النواضر؛ كرثاء عبيد بن الأبرص قومه بقوله:

ديار بني سعد بن ثعلبة الأولى ** أَذاع بهم دهرٌ على الناس رائبُ

فأذهبهم ما أَذهب الناس قبلهم ** ضِراسُ الحروب وَالمَنايا العواقبُ

 

ومن هذا قول لبيد بن ربيعة وهو يصور حالة الديار وهي فارغة بسبب حرب الفجار حتى تأبّدت -أي سكنتها الوحوش-:

عفت الديار محلها فمقامها ** بمنى تأبّد غولها فرجامها

 

ومثل غيره من الحضارات والأمم وقف العربي أمام الغيبيات وغوامض الحياة طويلا، مدفوعا بالبحث عن مدبر ومرشد إلهي يقدسه ويخضع له؛ لذا كانت هناك أماكن وقف فيها وانتفض لها كيانه؛ لاعتقاده أنّ الإله أو روحه تسكن فيها؛ كحرم اللات والعزى ومناة والبيت الحرام. ويجسد قول زهير دلالة قداسة هذه الأماكن:

وباللات والعزى التي يعبدونها ** بمكة والبيت العتيق المكْرم

 

وقوله أيضًا في موضع تقديس آخر:

فأقْسمتُ بالبيت الذي طافَ حولَه

رجال بنوه من قُريشِ وجرهمِ

 

وكانوا كذلك يقدسون الأسواق كعكاظ وذي المجاز لارتباط هذه الأمكنة بمواسم الحج فقد ورد في أخبار مكة قول أحدهم: (لا تحضروا سوق عكاظ والمجنة وذا المجاز إلا محرمين بالحج). وقدسوا أيضًا الجبال، كما في قول ورقة بن نوفل:

سبحانه ثم سبحانه نعوذ ُبه ** وقبلنا سبّح الجودي والجُمُد

 

لم يكن الشعر عند العرب محض جنس أدبي يترنم به فقط، بل كان فعلا ديوان العرب الجامع لأخبارهم وأيّامهم وعاداتهم وبيئتهم، ويصل به الحال أحيانا لأن يكون بوصلة العرب وأطلسها الجغرافي الذي يستدل به على المكان؛ فقد ورد في "جمهرة أشعار العرب" أنّ وفدًا خرج من جهينة يريد النبي صلى الله عليه وسلم فلّما قدموا عليه سألهم عن مسيرهم فقالوا: يا رسول الله! لولا بيتان قالهما امرؤ القيس لهلكنا – عطشا-! فقال الرسول: وما ذلك؟ قالوا: خرجنا نريدك حتى إذا كنا ببعض الطريق إذا برجل على ناقة له مقبلٍ إلينا فنظر إليه بعض القوم فأعجبه سير الناقة فتمثل ببيتين لامرئ القيس يقول فيهما:

ولمّا رَأَتْ أنّ الشّريعَةَ وِرْدُها * وأَنَّ البَيَاضَ من فَرائصِها دامي

تَيَمَّمتِ العَينَ التي جَنبَ ضارِجٍ * يُفيءُ عليها الظِلُّ عرْمَضُها الطامي

وكان ماؤنا قد نفد فاستدللنا على العين بهذين البيتين فوردناها..

وتشرح كتب الأدب أنّ ناقة امرئ القيس عطشت حتى تحول لحم الفرائص "ما بين الكتف والصدر" إلى لون أبيض فتوجهت صوب عين الماء الذي كان طاميًا "مرتفعًا" وبه عرمض "طحالب" عند مكان يقال له ضارج.