◄ الهوية ليست سجنا ولا بيتا قديما إنّما هي مشروع متجدد ودماء لا تتوقف عن التدفق في شرايين يشغلها التفوق والريادة والتأثير لا الانكفاء على النفس والخوف من المغامرة
د. سيف بن ناصر المعمري
الهوية لا تزال تشغلنا كثيرا لسنا كعمانيين فقط ولكن كثير من دول العالم؛ حيث يسعى الجميع إلى الحفاظ على تمايزهم عن الآخرين سواء الذين يعيشون معه على نفس الأرض أو أولئك البعيدون الذين يؤثرون في حياته وتصله منتجاتهم المادية أو الثقافية.
وسواء كان تفكيرنا في الهوية ناتج من قلق وخوف على تأثرها أو تزعزعها أو ناتج عن شعورنا بأنها تمثل لنا مصدر ثراء اجتماعي وثقافي واقتصادي، ينبغي أن نفكر في الهوية بمنظور مستقبلي كما نفكر في أشياء أخرى حتى لا تسجننا هويتنا بين قضبانها الضاربة في التاريخ، لأنها لو تمكنت من سجننا ووضعتنا في قفصها الذي نحبه كثيرا- لأنه يمثل لنا الإنجازات والفخر والتفوق الذي لم نره ولكنه وصل إلينا وكلنا يتمنى لو كان معايشا لا سامعا لما تحمله هويته- فسنخسر كثيرا. وبالتالي لابد ونحن نشد رحالنا إلى المستقبل أن نعيد النظر في تفكيرنا في الهوية، ونفهمها جيدا ونجيب عن أسئلتها العميقة وأهمها هل الهوية ثابتة أم متغيرة؟ لأن الإجابة عن هذا السؤال سيحدد موقفنا من الهوية هل نحافظ أم نطور فيها ونعيد بناءها بشكل تحولي حتى نتمكن من الوصول إلى المستقبل بهوية مستقبلية لا هوية حاضرة ولا ماضوية لأن ما نعده للمستقبل من استراتيجيات يتطلب هوية مختلفة تضمن تحقيقه.
بصفة عامة يمكن القول إنه أمامنا ثلاثة مسارات للنظر إلى هويتنا وتلك النظرة تقدم لنا صورة محددة للعماني، مسار الماضي ومسار الحاضر ومسار المستقبل، في ما يتعلق بمسار الماضي نجد أنه يحظى باهتمام كبير في خطابات الحكومة والمجتمع وهو أيضا يحظى بهالة من الانبهار لما يحمله هذا المسار من إنجازات تاريخية متعددة في مختلف المجالات، وبالتالي ارتبطت صورة العماني هنا بالقوة والانتصار والإنتاج والتحرك للتأثير خارج الحدود والمرونة في الأخذ بالجديد، والتخطيط الجيد ونشاط الفرد المجتمعي وحراك المجتمع في تدبير شؤونه.
أما المسار الثاني فهو مسار الحاضر الذي ارتبط ببناء الدولة المعاصرة ومؤسساتها وبناء الطموح العماني من خلال إعادة تعزيز الوحدة الوطنية وبلورة علاقة قانونية بين الفرد والدولة؛ إلا أن هذه العلاقة أخذت طابعا ريعيا ليس في عمان، ولكن في جميع دول الخليج، بمعنى أن الظروف الاقتصادية أطرتها بهذا الشكل الآن، ولذا ارتبطت صورة العماني بالعمل في الوظائف الحكومية وهجر القطاعات الإنتاجية وعدم الإنتاج وضعف التخطيط في بعض الأحيان، وما غير ذلك، وتزايد النظر في الماضي بدلا من النظر إلى الحاضر ومعالجة إشكالياته والانطلاق لتحقيق الريادة في مختلف القطاعات التعليمية والاقتصادية.
أما المسار الثالث والذي لا يحظى بتفكير كبير منها فهو مسار المستقبل والذي تم رسمه بعناية كما نجد في خطاب المشرفين على استراتيجية عمان 2040، وبالتالي هذا المستقبل يتطلب هوية عمانية مختلفة تستطيع أن تحققه لأنه مختلف عن الماضي الذي شكل هويته الخاصة ومختلف عن الحاضر الذي أنتج هوية مرتبطة به، وما نعرفه أن عماني المستقبل لا نريده كما يوصف اليوم مبتكرا ومخترعا فقط ورائدا في التجارة فكل هذه الجوانب برع فيها العماني في الماضي، ولم يأتنا التاريخ على سبيل المثال برجل مثل الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي اخترع علم العروض الذي أسس به علم الموسيقى، ولا تاجرا ناجحا مثل السيد سعيد بن سلطان ولا هندسة مثل هندسة الأفلاج، فبالتالي نريد عماني المستقبل أكثر من ذلك، نريده رائدا مجددا محلقا في هذا العالم يتفاعل معه، ويبني معه حضارة إنسانية يكون فيها هو المؤثر والشريك لا التابع السلبي، ونريد عمانيا يستعيد موقعه الإنتاجي الذي فقده في كثير من القطاعات، ونريد عمانيا سباقا في استقراء المستقبل والاستفادة منه وذلك لن يتم بدون أن نفهم أن الهوية ليست سجنا ولا بيتا قديما إنما هي مشروع متجدد ودماء لا تتوقف عن التدفق في شرايين يشغلها التفوق والريادة والتأثير لا الانكفاء على النفس والقناعة المتولدة عن ضعف، والتردد الناتجة من الخوف من المغامرة لو خاف الملاحون والنواخذة العمانيون من قبل من البحر وركوبه والصراع مع مجاهيله لفقدان جزء كبير من تاريخنا الذي نعتز به.
دعونا نفكر في هوية المستقبل والعماني الذي سوف يصنع هذا المستقبل، ولنتحرر من بعض أوهامنا، ولنقتل ترددنا في مواجهة هذا السؤال الذي يلح علينا، ولا يمكن أن نؤجله إلى يوم لا نعرف ما هو، لأننا كأمة يجب أن نقرأ واقعنا جيدا ونفهمه في إطار المسارات الثلاثة لكي نتلمس طريقنا وما نريد بحكمة ومصداقية وشفافية إن لم نفعل ذلك اليوم ونحن نخطط للمستقبل فمتى سنفعل؟