الطين والأظافر

محمد علي العوض

عندما تقدم الشاعران محيي الدين فارس وأحمد عبد المعطي حجازي لمسابقة شعرية أقامتها مجلة أبولو؛ أحال الأستاذ محمود عباس العقاد قصائدهما إلى لجنة النثر بدلا من لجنة الشعر التي كان يرأسها، فقد كان آنذاك رافضا لشعر التفعيلة وغير معترف بشعرائه.. حجازي رأى في موقف العقاد تهمة مُبطنة تشي بأنّ أصحاب الشعر الحر أو التفعيلة عاجزون عن كتابة قصيدة - تقليدية- فكتب قصيدة عمودية من البحر البسيط كان مطلعها:

من أي بحر عصي الريح تطلبه ** إن كنت تبكي عليه نحن نكتبه

فكانت رسالةً للعقاد بأنّهم يجيدون النظم المُقفى بشتى بحور الخليل، ولم يكتف بذلك فحسب بل لمز العقاد نفسه بما يتردد حوله بأنّ شعره أقرب إلى برود العقل من حيوية العاطفة؛ قائلا:

ونعرف الصدق في الديوان ما خفقت ** له القلوب، وما نامت نكذبه

ومعروف أن الديوان هو اسم جماعة شعرية أسسها العقاد مع عبد الرحمن شكري والمازني..

فهم العقاد الرسالة؛ وفي دلالة على قَبوله هذه اللونية الجديدة من الشعر عاد فأثنى على حجازي ومحيي الدين فارس؛ الذي يعد أحد رواد قصيدة التفعيلة السودانية والقصيدة العربية وواحدًا ممن ساهموا في إثراء المشهد الشعري في السودان ودفع حركة الحداثة التي ابتدرها قبله محمد سعيد العباسي والتيجاني يوسف بشير وغيرهم..

وُلِد محيي الدين فارس بشمال السودان عام 1936 بمدينة أرقو، التي وصف الشاعر التجاني سعيد خضرتها المتلاقحة مع النيل بأنّها قطعة من الجنة أخطأت طريقها إلى الأرض، وتخرج في دار العلوم، ليعمل بعدها محاضراً للغة العربية بكلية بخت الرضا بالسودان، ومفتشاً تعليميا قبل أن يتفرغ لإنتاجه الأدبي.. فجانب شاعريته كان صاحب قلم مدرار نشر كتاباته ورؤاه النقدية في كثير من الصحف العربية والمجلات كالرسالة، والأهرام والآداب وغيرها.

كتب الشعر على الطريقتين؛ طريقة الخليل "العمودية"، وطريقة "الشعر الحر" وإن لم يكن يطبق جميع معاییر وأسس الطريقة الحديثة إلا أنّه كان متوسطا في شعره بین القديم والحديث، مسایرًا لرواد التجديد في أغلب المضامين والصور الشعرية، وممثلا نقلة نوعية كبيرة للقصيدة السودانية من حيث اللغة، والعبارة والصورة.. رافدا القصيدة العربية في السودان برائحة الحداثة، ومحاولا تخليصها من التقليد والمحاكاة؛ وقد تجلَّى ذلك في ديوانه "الطين والأظافر" 1956 الذي تفاعلت معه حناجر المطربين وانساقت مع موسيقاه وحرارة تأثيره أنامل الموسيقيين؛ فجاءت قصائده مواكبة لسمات العصر وقضاياه، وواعية بأشواق الإنسانية للتحرر من ربقة التبعية والمستعمر البغيض، وداعمة لحركات التحرر الوطني الإفريقية والعربية حين تبنى الخطاب العروبي القومي.

وتحضر قصيدة "ليل ولاجئة" دليلا على "مناجاة الروح الإنسانية لِصِنوِها حين تتحد أو تفترق آصرة الدين واللغة والمصير" وترسم لوحة للاجئة في مخيمات البؤس وقت الليل والمطر وهزيم الريح؛ طالبًا منها ألا تنام؛ فالنوم صنو الموت، وكأنّه يحذرها من أن تموت وتدع أفراخا يتامى بعدها..

معجم القصيدة الذي حفل بكلمات صادمة مثل: "الريح، الزغب، تراعشت، حطام، جوع، أدمع، قتام، زفرة، ضرام، ظلام، تكومت" يستحق أن يكون مرافعة تاريخية تشعرنا بمدى خنوعنا وتستحث على النجدة:

لا.. لا تنامى

الليل أوغل لا تنامى

الريح أطفأت السراج.. وقهقهت خلف الخيام

وفراخك الزغب الصغار.. تراعشت مثل الحمام

وتكومت فوق الحصير.. تكومت مثل الحطام

ناموا على جوع.. فما عرفوا هنا طعم ابتسام

وعلى خدودهمو.. بقايا أدمع.. ورؤى قتام

لا.. لا تنامى

ضجت مزاريب السماء وأعولت ملء الظلام

وهناك في قبو الحياة هناك في دنيا الخيام

تمضي الحياة بلا ابتسام

تمضي كزفرة مومس ضاعت بأطواء الظلام

ويستدر البيت "وفراخك الزغب الصغار.. تراعشت مثل الحمام" العواطف، ويذكرنا بالحالة الإنسانية للحطيئة عندما استعطف سيدنا الفاروق حين حبسه بأبياته الشهيرة:

ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ

زغب الحواصل لا ماء ولا شجر

 ففارس نقل ذات الاستعطافية حين استعار لفظة (فراخك) من معناها الحقيقي ليدل بها على صغار اللاجئة المتكومين من شدة الجوع والريح التي شخّصها إنسانا يقهقه..

كان فارس كما وصفه محمد الربيع في "زمن الكتابة": "صاحب مشروع شعري وليس ظاهرة عابرة في الشعر السوداني، ومازال حضوره في قلب خارطة الشعر واطئاً جمرته.. وینتج عالمه الشعري المتميز، غاسلاً لغته من آثار الآخرين، وخالقاً لغته الخاصة وكونه الشعري المستقل".. وقد أُوتي مهارة توظيف الخیال في تكوین الصورة الفنية من خلال تشخيص المحسوس وإضفاء بعض الصفات الإنسانية عليه كما في قصيدة (القناديل المطفأة) التي قال فیها:

حديقتنا جعدت وجهها

وسياج البنفسج شاخت عناقيده

ثم ألقت على الأرض تيجانها

والينابيع غاصت

وأشجارنا لقحتها الرياح الكواذب

والطين حین اقتحمتُ بستانه

حمّلق الصمت في مقلتیا

ووجه النهار تسرب من راحتیا

ففارس صاحب دواوين "الطين والأظافر" و "نقوش على وجه المفازة" و"صهيل النهر" و"القنديل المكسور" و"الشمس تشرق من جديد" و"تسابيح عاشق" يشخص الحديقة لنراها وجها متجعدا، وبخيالنا الرائي نراقب عناقيد البنفسج وهي تشيخ وتذوي، ونسمع بآذننا الرياح وهي تكذب وتكذب، ويغدو الصمت مُحملقًا. وتبدو شعرية التصوير وتجسيم المعنوي أشد وضوحا في قصيدة (تثاؤب) التي يقول فيها:

لحاء الشجر

یخبئ عني ضياء القمر

وتسرق عطر البنفسج أنف الحجر

ویسقط مني الممر

كما يمنح الأرصفة حق النطق والرؤية في قصيدة "صورة من الشارع":

تحدّق في وجهي الأرصفة

وتلقي عليّ السلام

ويستعين فارس بأشهر أدوات التشبيه الـ "كاف" و"كأنّ" لوصف مشهد "راقصة الحانة"، وهنا تتبدى براعته اللغوية وتوظيفها لترجمان مشاعره وأحاسيسه ونقلها للمتلقي، وتتضح تلك المهارة في توظيف أداتي التشبيه الـ "كاف" و"كأنّ" السابقين، فالكاف أصل أدوات التشبيه، وأكثرها استعمالا وهو حرف تشبيه بسيط يأتي بعده المشبه به لفظا مثل قولنا: الرجل كالأسد، أما كأنّ فيليها المشبه "كأن زيدا أسد" وقد اتفق البلاغيون على أنّ (كأنّ) أقوى من (الكاف) في الدلالة على التشبيه، حيث يقول السبكي: تستعمل "كأن" حيث يقوى الشبه. فالشاعر بدأ بحرف التشبيه البسيط "الكاف" ثمّ ارتقى بالحالة الشعورية للمتلقي رويدا رويدا باستعمال حرف التشبيه "كأن" حتى يتخيّل السامع الصورة الذهنية والمشهد تدريجيا والانتقال من الصوة الخارجية "الجسد" ومفاتنه إلى الحالة "السايكولوجية" للراقصة سجينة نظرات اللذة والتي تخنقها العبرات وحالة الأسى:

كلهیب تنور

وكشهقة حمراء في أعماق ماخور

كانت تُلوي كالأعاصير..

وتميل راقصة على أنغام طنبور

حتى إذا الليل الضرير ذوى.. وتساقطت كل النجوم

كأنها عبرات مأسور

عادت تجر وراءها صمت الدياجير

عادت إلى كوخ حقير مظلم النور

حيرى كتمثال تُعذبه نقرات إزميل