حينما تحكي الأيدي وتسمع العيون

 

محمد علي العوض

 

لأول مرة، أحيا العالم الأحد الماضي اليوم الدولي للغات الإشارة تحت شعار "مع لغة الإشارة، الاهتمام يطال الجميع".. اختيار مفردة الجميع ضمن الشعار مؤكد أنه لم ينبع من فراغ؛ فهي تعني حتمية النظر لفئات المجتمع كافة بعين المساواة والعدالة، وأنّ الصُّم البالغ عددهم 72 مليونا - بحسب إحصاءات الاتحاد العالمي للصم- والذين يعيش 80% منهم في البلدان النامية ويستخدمون أكثر من 300 لغة إشارة؛ هم كالجميع لهم الحق في التعليم والرفاه ومزاحمة الآخرين على وظائف سوق العمل والتأهيل المناسب، ليس من زاوية التعاطف معهم؛ بل لأنّهم بشر مثلنا؛ لهم ما علينا وعلينا ما لهم من حقوق وواجبات أقرتها المواثيق وعضدتها الأعراف الدولية.

 

تاريخيا تواجدت الإشارة منذ أن تواجد الصم في العالم وربما تكون أقدم اللغات؛ حين كانت الشعوب تلتقي وهي تجهل لغة بعضها فتتواصل بلغة الإشارة وإيماءات الجسد، ولكن كلغة رسمية متعارف عليها بدأت في القرن السابع عشر بإسبانيا عام 1620. وترجع أقدم المحاولات المتصلة بتنمية قدرات الاتصال لدى الصم إلى رجلي الدين المسيحيين؛ الإسباني بدرو بانس دوليون، والفرنسي دولابي اللذين عاشا في القرن السابع عشر، حيث اهتم الأول بتنمية التواصل الشفوي لدى الصم، ونجح في تعليم قراءة اللغة اللاتينية لشقيقين أصمين، وطريقته تشبه إلى حد ما الطريقة الشفوية الحالية المعتمدة على قراءة الشفاه، وظهرت في الفترة ذاتها تقريباً طريقة أبجدية الأصابع التي ترمز إلى الحروف في الأبجديات المختلفة عن طريق أوضاع معينة لليد والأصابع وذلك بطريقة اصطلاحية تماماً.

 

 

أمّا لغة الإشارة فقد وجدت بشكل تلقائي لدى الصم، وأول من بادر إلى تنظيمها وتقنينها هو الأب (دولابي) الذي نظم الإشارات التي يستعملها الصم ودونها في قاموس صغير ومن ثم أصبحت هذه اللغة هي اللغة الأساسية في المدارس التي كان يشرف عليها.

انقسم الناس إزاء طرق الاتصال بالتلاميذ الصم إلى فريقين، فريق يتبنى الطريقة الشفهية المعتمدة على حركة الشفاه وفريق آخر يعتمد الطريقة اليدوية المعتمدة على حركة الايدي في خلق التواصل مع هذه الفئة التي تختلف لغة الإشارة عندها بحسب بلدانها، فلغة الإشارة في اليابان بديهي أن تختلف عن لغة الإشارة في السودان أو إنجلترا -مثلا-، ويصدف أحيانا أن تكون في القطر الواحد والدولة الواحدة أكثر من لغة إشارة بحسب اللهجات واللغات المنتشرة فيه. وتظهر الأبحاث اللغوية أنّ هناك شبها كبيرا بين اللغات المنطوقة ولغات الإشارة؛ فاللغة وليدة بيئتها المادية والاجتماعية، فإذا كان الإنسان يعيش في بيئة زراعية فلابد أن تجد في لغته ألفاظاً للتعبير عن الأدوات الزراعية وعمليات الحصاد وأنواع الثمار والشجر وغيرها.

اكتساب لغة الإشارة شبيه جدا بمراحل تعلم اللغة المنطوقة؛ كما تعتمد في مكونها الأولى على حركة اليدين وشكل الأصابع بإشارات محددة، وتكون الإشارات تبعا لكل حرف من الحروف الأبجدية ومن خلالها يمكن تكوين جمل، ويحدث أن تعبر إشارة ما عن كلمة أو جملة كاملة. ولا تقتصر هذه اللغة على حركة اليدين فهي تشمل تعابير الوجه لترجمة ﺍﻟﻤﺸﺎﻋﺮ ﻭﺍﻟﻤﻴﻮﻝ. وكذلك حركة الشفاه لأن الأصم ﻳﻘﺮﺃ الكلمات أحيانا ﻣﻦ ﺍﻟﺸﻔﺎﻩ ﻣﺒﺎﺷﺮة. كما تشمل هذه اللغة ﺍﻟﺠﺴﻢ أيضا ﻛﻮﺿﻊ ﺑﻌﺾ ﺍﻹﺷﺎﺭﺍﺕ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﻛﺘﺎﻑ ﺃﻭ ﻗﻤﺔ ﻭﺟﻮﺍﻧﺐ ﺍﻟﺮﺃﺱ ﺃﻭ ﺍﻟﺼﺪﺭ ﻭﺍﻟﺒﻄﻦ ﻓﻰ ﺍﺳﺘﻌﻤﺎﻝ ﺇﻳﺤﺎﺋﻰ ﻟﺘﻮﺿﻴﺢ ﺍﻟﺮﻏﺒﺎﺕ ﻭﺍﻟﻤﻌﺎني.

إنّ عملية الاتصال هي جوهر استمرار الحياة الاجتماعية وتطورها، وكانت السبيل الأبرز على تطور الحضارة الإنسانية، ولا يخفى على ذي البصيرة والتخصص أن عملية التربية والتعليم تقوم على الاتصال الفعال بين الملقي والمتلقي، وأنّ الهدف الأساسي لتربية فئة الصم هو تحقيق اتصال فعّال مع المجتمع من حولهم، وهدم جدار العزلة المفروضة عليهم بسبب الصمم؛ كما فعل بيتهوفن الأصم الذي انتصر على عالم الصمت حينما أصبح أعظم موسيقي في العالم؛ لذا يعد دمج هذه الفئة مع الأطفال العاديين في المدارس والتجمعات من الأهمية بمكان، على أن تكون لهم فصولهم الخاصة لخصوصيّة لغتهم.

هذا الدمج سيوفر حياة اجتماعية وتعليمية أفضل، ويرفع من مقدار ثقتهم بأنفسهم والاندماج في المحيط الواحد وضمان التواصل والتعايش مع الآخرين.

ولكن يبقى القول إن التحدي الأكبر الذي يواجه فئة أطفالنا الصم يتعلق بكيفية اتصالهم بمجتمع العاديين؟ وكيف يتعلمون لغة المجتمع؟ والأهم من ذلك كيفية التفاهم فيما بينهم؛ سواء بلغة الإشارة المعروفة تربويا أو بلغتهم الخاصة والإشارات المبتكرة بينهم؛ المشابهة للغة أصحاب الصنعة الواحدة، الأمر الذي يشير إلى ضرورة إشراك هذه الفئة في وضع قاموسها ومناهجها، ومن دون ذلك سيظل أي حديث عن تقنين لغة الإشارة أو تطويرها ناقصًا وأبتر.

في سوريا قبل عام من الآن أو قد يزيد ابتكر الصم لغة إشارة للهروب من ويلات الحرب؛ حيث يعني وضع الأصبعين على راحة اليد "حكومة" ورفع 3 أصابع يعني "معارضة" أمّا رفع البنصر وضم الإبهام إلى السبابة والوسطى على شكل "S" مرتين فيعني داعش".

 

Mohamed102008@windowslive.com