متى نكتشف المقاصد الكبرى للشريعة الإسلامية؟

د. يحيى أبوزكريا

 واحدة من أهم المدلهمات التي حاقت بمسيرة الفكر الإسلامي وحركة الاستنباط والاجتهاد وأخرجت الرؤية الإسلامية من الدائرة الإنسانية إلى الدائرة المذهبية والقطرية والجهوية الضيقة إهمال فقه المقاصد الشرعية وعدم اكتشاف الأبعاد الكلية لدين الله، فغصنا في الفروع وتركنا الكليات واشتغلنا بالبيزنطيات وجدلها وتركنا روح الشريعة التي أرادنا الله أن نسبر أغوراها لتصبح مقياسًا لحركة التصور والاستنباط وصناعة الرؤية الواقعية.

وكان الشاطبي صادقاً ودقيقاً عندما قال الفقه بلا مقاصد فقه بلا روح والفقيه بلا مقاصد فقيه بلا روح إن لم نقل إنه ليس بفقيه والمتدين بلا مقاصد متدين بلا روح، والدعاة إلى الإسلام بلا مقاصد دعاة بلا روح ومن هنا تبرز حاجة المجتهد والمسلم العادي إلى معرفة مقاصد الشريعة، فالبنسبة للفقيه المجتهد فيكفي أن نشير إلى أن الفقه حتى في أصله اللغوي لايتحقق إلا بمعرفة حقائق الأشياء والنفوذ إلى دقائقها وأسرارها وبالتالي فليس الفقه حقيقة سوى العلم بمقاصد التشريع وأسراره  ويذهب محمد طاهر بن عاشور صاحب كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية إلى القول بأنَّ طريق المصالح هو أوسع طريق يسلكه الفقيه في تدبير أمور الأمة عند نوازلها ونوائبها إذا التبست عليه المسالك، وإنه إن لم يتبع هذا المسلكَ الواضح والمحجةَ البيضاءَ فقد عطَّل الإسلام عن أن يكون دينًا عامًا وباقيًا. وحسب ابن عاشور فإن غلق باب الاجتهاد وتحجير النظر، حطّ من قيمة علم الأصول عند طالبيه فأودِع في زوايا الإهمال وأصبح كلمات تقال، وبذلك قلّ تدريسه ...وقد حاول ابن عاشور في كل كتبه اكتشاف رياضيات الإسلام ومعادلات الإسلام الكبرى، لينطلق منها نحو صناعة الرؤية الواقعية الثاقبة، فمن كتابه تحرير المعنى السديد، وتنوير العقل الجديد، من تفسير الكتاب المجيد» المعروف بـ«التحرير والتنوير من تفسير القرآن الكريم وإلى كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية والتوضيح والتصحيح حاشية على التنقيح للقرافي في أصول الفقه وأليس الصبح بقريب؟ التعليم العربي الإسلامي: دراسة تاريخية وآراء إصلاحية وكشف المغطّى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ إلى نقد على كتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق والنظر الفسيح عند مضايق الأنظار في الجامع الصحيح وأصول النظام الاجتماعي في الإسلام، سلسلة من تكريس فقه المقاصد جديرة بإعادة النظر والاستفادة من هذا العلم ..وقد ألف محمد الطاهر بن عاشور  العالم التونسي الجليل كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية وكان تأليفه استجابة للأُمنية التي أعرب عنها الشَّيخ محمد العزيز جُعَيط المفتي المالكي (1303-1389هـ)، يوم أن كتب في (المجلَّة الزيتونيَّة) أنه لم يعثر في تلك الثَّروة العلميَّة الهائلة على كتابٍ جامعٍ، يجمع في مطاويه شَمْل المقاصد الشَّرعية، ويُفصح عن أسرار التَّشريع.

فكان هدف ابن عاشور من تصنيفه -كما قال- ليكون: "مرجعاً بين المتفقِّهين في الدِّين عند اختلاف الأنظار وتبدُّل الأَعصار، وتوسُّلاً إلى إقلال الاختلاف بين فقهاء الأمصار، ودُربةً لأتباعهم على الإنصاف في ترجيح بعض الأقوال على بعض، عند تَطاير شرر الخلاف، حتى يستتبَّ بذلك ما أردنا من نبذ التعصُّب والفَيْئَة إلى الحقِّ".

والذي دعاه إلى صرف الهمَّة إليه ما رأى من "عُسر الاحتجاج بين المختلفِين في مسائل الشَّريعة، إذ كانوا لا يَنتهون في حِجاجهم إلى أدلَّة ضرورية أوقريبة منها يُذعن إليها المكابِر، ويَهتدي بها المشبَّهُ عليه، كما ينتهي أهل العلوم العقليَّة في حِجاجِهم المنطقيِّ والفلسفيِّ إلى الأدلَّة الضَّروريات والمشاهدات والأصول الموضوعة، فينقطع بين الجميع الحِجاج، ويرتفع من أهل الجدل ما هم فيه من لجاج".

وقد قسَّم المؤلِّف كتابه إلى ثلاثة أقسام، فجعل القسم الأول في إثبات أنَّ للشَّريعة مقاصدَ من التشريع، عالج فيه القواعد المعرِّفة لهذا العلم، وجعل القسمَ الثاني في مقاصد التشريع العامَّة، أي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أومعظمها، والقسم الثالث في مقاصد التشريع الخاصَّة بأنواع المعاملات، فبحث في توجُّه الأحكام إلى مرتبتين: مقاصد ووسائل، وبيَّن أن مقصد الشَّريعة في المعاملات تعيين أنواع الحقوق لأنواع مستحقِّيها.

وكان ابن عاشور يرى أن الفقيه المجتهد يحتاج إلى معرفة مقاصد الشريعة التي تفرض معرفة هامة بآليات الاجتهاد؛ اهتمّ ابن عاشور بمقاصد الشريعة اهتمامًا بالغًا، ويعدّ أهم مَن لفت النظر إليها في التاريخ المعاصر من خلال كتابيه  أصول النظام الاجتماعي في الإسلام الذي خصّصه لمقاصد أحكام العبادات، ومقاصد الشريعة الإسلامية الذي خصّصه لمقاصد أحكام المعاملات والآداب، ويعتبر نموذجًا للدراسات المركّزة في هذا المجال، بما تضمّنه من خطّة متناسقة أفصحت عن مدى قدرة المؤلف في التصوّر العام على مظاهر التجديد، وتجاوز التأليف في موضوع المقاصد إلى اقتراح تناوله كعلم مستقل من علوم الشريعة.