حميد بن مسلم السعيدي
الإنسان هو باني الحضارة ومؤسس كيانات الدول، ولا يمكن أن يقوم وطن دون وجود مواطنين أوفياء وشرفاء يعملون لمصلحته ويسعون نحو رفعة مكانته بين الأمم، لذا فتحقيق التنمية الشاملة يعتمد على مدى رغبة المواطنين في تحقيق تلك الغاية الوطنية، لذا أدرك جلالة السلطان قابوس بن سعيد أهمية المواطن ودوره في المشاركة في مسيرة بناء النهضة العُمانية الحديثة منذ بداية الحكم في السبعينات، فوجه حكومته إلى الاهتمام ببناء المواطن وتوفير كل الاحتياجات الأساسية التي تساعده على القيام بدوره الحقيقي والفاعل، بما يساعد على تحقيق النمو الاقتصادي وتطوير كافة مجالات الحياة، ولهذا وجه خطابه الأوَّل للمواطن العماني مقدماً له الوعد بتحقيق سعادته "أيها الشعب... سأعمل بأسرع ما يمكن لِجَعْلِكُمْ تعيشون سُّعَدَاءِ لمستقبل أفضل" حيث نجد في هذا الخطاب لبداية حكم جلالته اهتمام كبير بالإنسان العُماني وتقديم الوعد بتحقيق سعادته على أرض هذا الوطن، مما يعطي مؤشرا حقيقيا على تحمل المسؤولية المُلقاة على عاتقه في بناء النهضة العُمانية والتي هدفها تحقيق سعادة المواطن، بعد أن عاش مرحلة من الظلم والجهل والتخلف كانت مرحلة فاصلة في التاريخ، كما أكد جلالته على أهمية الشراكة بين المواطن والحكومة من أجل تحقيق هذا الوعد "على كل واحد منكم المُساعدة في هذا الواجب" حيث يتجلى مدى التوجيه السامي لدعوة المواطنين في المساهمة في بناء الوطن، مشترطا لتحقيق تلك الغاية العظيمة والوصول بهذا الوطن إلى ما كان عليه في الماضي تعاون واتحاد المواطنين مع الحكومة في مسيرة البناء، وهنا يتحدث جلالته عن أهمية المواطن ودوره في التنمية، وهذا دليل على مدى إدراك جلالته للارتباط بين الإنسان والتنمية ودوره في تحقيقها على أرض الوطن، متخذا من التاريخ العماني مصدرا للانطلاق في بناء عُمان "كان وطننا في الماضي ذا شهرة وقوة وإن عملنا باتحاد وتعاون فسنعيد ماضينا مرة أخرى"، إن هذا الاستشهاد بالتاريخ العُماني يعطي عمقا كبيرًا للحضارة العُمانية والتي كان أساسها المواطنون الأوفياء الذين عملوا بإخلاص وأمانة مما كان له الدور في تحقيق الإمبراطورية العُمانية، لذا أكد جلالته أننا لنا غاية كبيرة هي العودة للماضي، وبناء وطن له قيمته ومكانته بين الأمم، وللوصول إلى ذلك فإنَّ الطريق طويل "يا أبناء وطني... الدرب شاق وطويل ولكن بالجهد والمثابرة سوف نصل إلى هدفنا بأسرع وقت وبإذن الله"، ويأتي هذا التوجيه في خطاب جلالته للجانب الإنساني والعاطفي والوطني، ويتضح مدى التربية من أجل المواطنة في فكر جلالته ومخاطبته لأبناء وطنه، وما يتضمنه هذا المفهوم من جانب عاطفي يوضح مدى الارتباط بين الإنسان والأرض التي يعيش عليها وهي علاقة الأم بالأبناء، وتحقيق ذلك الارتباط يوجه الفرد للعمل بإخلاص من أجل وطنه، وأن الوصول للغايات ليس بالأمر السهل فالطريق مليئة بالتحديات والصعاب بحكم الظروف التي بدأ فيها تكوين الدولة في بداية السبعينات والإرث الذي ترك بحاجة إلى إعادة بناء، والتحدي الأكبر هو الوصول إلى ذات المستوى الذي كانت عليه عُمان في الماضي القريب، وهو معيار كان واضحا في الخطاب السامي.
هذا الاهتمام لم يغفل الدور الأساسي للمواطن في تحقيق التنمية المستدامة وعامل قيامها وتطورها، والذي كان شعار النهضة العُمانية الحديثة، لذا فإنّ الاهتمام به يسهم في تحقيقها حيث أكد جلالته "فالإنسان هو صانع التنمية، فيجب أن يكون هدفها، إسعاده، وإعداده، ليعطي بلاده أحسن ما عنده من إنتاج...."، ويتجلى في هذا الخطاب أنَّ تحقيق التنمية الشاملة يُسهم في سعادة المواطن العُماني وهو الغاية الأساسية من ذلك، ويأتي مفهوم السعادة في الخطاب السامي لجلالته مشيراً في أكثر من موقع إلى ذلك، مما يعطي دلالة واضحة على مدى الاهتمام بالجانب العاطفي للمواطن، وتحقيق هذه الغاية ليس من السهل بمكان، فالسعادة هي شعور داخلي لدى الفرد، يختلف من شخص لآخر، يشعر خلالها الفرد براحة النفس، وطمأنينة القلب، وهي شعور لا يتحقق لدى الكثيرين، ورغم ذلك فهو يعتبر مفهوما من الأساسيات التي يجب أن تكون لدى الإنسان حتى يتمكن من العيش والاستمرارية في العطاء.
ولكي تتحقق سعادة المواطن العُماني كانت النهضة العُمانية تعمل منذ بدايتها على تحقيق التنمية الشاملة في كافة جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمدنية، كل ذلك بهدف توفير حياة كريمة للإنسان فجاء التعليم والصحة في أولويات اهتمام الحكومة بتوفيرها، ثم انطلقت بعد ذلك نحو بقية خدمات البنية التحتية، حتى يتمكن المواطن من القيام بواجبه والمساهمة في عملية التطوير لذا لم يتأخر البناء كثيرًا فسرعان ما أصبح المواطن خلال فترة وجيزة عاملا مساهما ومشاركا في مسيرة النهضة العُمانية بعد أن كان مغيباً عنها في الماضي، فكل الموارد المالية كانت تُسخر من أجل خلق الحياة الكريمة للمواطن العماني، وهو ما جاء واضحًا في توجيه جلالته "إن المواطن العُماني هو المقصود بحق العيش الكريم على تراب أرضه رافع الرأس موفور الكرامة في ظل العدالة الاجتماعية المنبثة من التعاليم الإسلامية السمحاء" يتضح من الخطاب توجهات الحكومة من كل الأعمال التي تقوم بها والتي تهدف إلى توفير الحياة الكريمة للمواطن، بحيث تحقق كرامته وعزته، وتسهم في بناء مواطنيته وانتمائه للوطن، مؤكداً على مبدأ المساواة بين المواطنين وإزالة الفوارق بينهم على مبدأ العدالة الاجتماعية، وهي غاية عظيمة في إدارة المجتمعات تحت مظلة القانون الذي يصنع مجتمعات متقدمة عندما تتحقق العدالة بين أفرادها، وهي رسالة يوجهها جلالته إلى المسؤولين في القيام بواجبهم في الاهتمام بالإنسان العُماني بما يحقق السلام والإخاء والمحبة، كما يحدد الخطاب العدالة المتأصلة من تعاليم الدين الإسلامي والذي نادى بالعدالة بين أفراد المجتمع، تلك العدالة القائمة على التساوي في التعامل مع المواطنين بناء على نظام العدل بينهم، والتي تحقق الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والقانونية، وإتاحة القيام بذات الواجبات وتكافؤ الفرص بينهم، وبذلك يسعى جلالته على التأكيد على تمكين جميع المواطنين من إتاحة الفرص بالتساوي من أجل تحقيق النجاحات والمشاركة في عملية التنمية.
كما تضمن الخطاب السامي لجلالته مدى الاهتمام ببناء الإنسان العماني بما يساعد على تحقيق التنمية الشاملة في الوطن، والاهتمام بالقيم والأخلاق التي يجب أن يكتسبها المواطن وتنعكس على شخصيته الاعتبارية، حيث تتضح صفة القائد الأب الذي يربي أبناءه على القيم الفاضلة "إنَّ رقي الأمم ليس في علو مبانيها ولا في وفرة ثرواتها وإنما رقيها يستمد من قوة إيمان إبنائها بالله، ومكارم الأخلاق وحب الوطن والحرص والاستعداد للبذل والفداء في سبيل المقدسات"، هذا التوجيه موجه للمواطن العُماني خطاب تمثل في مضامين بعيدة عن الجانب المادي والتركيز على القيم والمبادئ الفاضلة التي يجب أن يتمسك بها المواطن، مرسخ فكرة أن التحضر لا يرتبط بالمال وإنما بما يتميز به الإنسان من قيم تنعكس على ممارساته وعلاقته بالآخرين.