التحديق في الموت

 

محمد علي العوض

كما قيل.. شيئان لا يمكن للمرء أن يحدق فيهما الشمس، والموت.. لكنّ القاصة الجميلة استيلا قايتانو جعلت ذلك ممكنًا حين صوّرت في إحدى مجموعاتها القصصيّة "بحيرة بحجم ثمرة الباباي" أنّ الموت ليس نقيضًا للحياة بل جزءا مكملا لها.. وبالنسبة لجدتها الموت تحول وانتقال من حياة لأخرى؛ لذا عندما أخبرت حفيدتها بأنّها رأت جدها (في صورة تمساح) سألتها الصغيرة: "ولكن يا جدتي.. جدي قد مات كيف ترينه مرة أخرى؟) لتجيب الجدة: (إننا لا نموت بل نتحول إلى أشياء أخرى تحمل الصفات التي كنا عليها) وتمعن الجدة في الأمر حين تقول: (...أتمنى أن أتحول إلى نسر).

إنّ اعتقاد التحوّل بعد الموت متجذر في الحضارات القديمة لا سيما في إفريقيا، وما زالت بعض المجتمعات تمارس ما يعرف بالأرواحيّة، وتعتقد أنّ الأجداد يستمرون في التدخل بحياة الجماعة عبر ظهورهم بعد الموت على هيئة إنسان عبر ما يُعرف بـ "التقمص والنسخ" أو على شكل حيوان "المسخ" أو جماد ونبات "الفسخ"..

لقد حاولت تلك الحضارات ألا تدع أي شيء حدث في الحياة السابقة يتلاشى، فالإفريقي الأرواحي يؤمن بالموت على الصعيد الواقعي ولكنه ينكره على الصعيد الرمزي، وكأنّه بذلك يؤكد قوة الحياة في مقابل الموت. كما يعتقد بتناسخ الأرواح وأنّ الموت ليس النهاية أو انقطاع عن الحياة وإنما استمرار لها، فالأموات - على حد قول لوي فانسان توماس- يتعايشون مع الأحياء لكنّهم يوجدون في مكانهم باعتبارهم موتى.

تحكي قصة "بحيرة بحجم ثمرة الباباي" كما يقول كمال الجزولي في التقدمة لها عن "فتاة تلازم جدتها حتى موتها، في قالب فنتازي مدهش، حيث ارتبطت هذه الفتاة بجدتها ارتباطا عميقاً، للحد الذي جعلها حتى بعد أن تقدمت في عمرها ترضع من ثدييها اللذين يشبهان ثمرة الباباي. مع استصحاب عوالم السحر، والأسطورة الشعبية في تعلّق الفتاة بالنسور حتى بعد وفاة جدتها؛ لأنّ جدتها أخبرتها ذات يوم بأنّها لو اتيح لها التحوّل إلى كائن آخر لاختارت أن تكون نسراً.

استهلت القاصة الجنوب سودانية الحكي بإرهاص فاتن جدًا ترتبط دلالته بنهاية القصة التي تخبرنا أنّ الراوية -أي الحفيدة- تكتب عن زمن ماضٍ، وأنّ الجدة قد ماتت وربما تحولت إلى نسر مثلما كانت تتمنى؛ هيأت فيها الكاتبة القارئ للحديث عن جدتها عندما قالت: "كل شيءٍ فيها كان يذكرني بشجرة الباباي المنتصبة في فناء بيتنا الواسع.. طولها الفارع، ووقفتها المستقيمة رغم شيخوختها.. لا ألمس في جدتي أي جماليات".

المقومات الأساسية في قصة "بحيرة بحجم ثمرة الباي" من حدث وشخصيات، وزمان ومكان، وحبكة، ورؤية سردية، تميّزت بقلة الكم ووحدة الانطباع، ووظفت القاصة مفردة البحيرة - الواردة في العنوان- توظيفًا دلاليًا يرمز إلى الخير والعطاء المتدفق وحركيّة الحياة، فالبحيرة تصغير "البحر" وهو مكان الولادة والتحوُّلات والبعث، وشبّهت ثديي جدتها بفاكهة الباباي، واتكاء على هذه الفاكهة المحلية وبعض الأوصاف التي حفلت بها القصة يتضح أنّها تتحدث عن جدة إفريقية تتزين بإكسسوارت الزينة المحليّة (شفتاها غليظتان.. رأسها كبير.. يزيّن شفتها السفلى ثقب هائل تسده بقطعةٍ من الخشب، أنفها أفطس، ترى الأفق عبر ثقب أذنها.. تبرز مساحةَ كبيرةَ من لثتها في الفك الأسفل نتيجة لقلع أربعة أسنان.. عيناها حمراوان.. جفونَها منتفخة، لها مقدرة فائقة في تحمل الألم)..

عالجت القصة ذات الطابع الاجتماعي الواقعي مرارة التعلق، سواء تعلق الحفيدة بجدتها عبر وسيط الرضاعة الذي مارسته حتى سن العاشرة أو حتى بعد فطامها عندما كانت تتلصص ليلا لتسطو على ذلك التواصل الحميم ".. منعتني من الرضاعة.. كانت أياماً صعبة، كنت لا أنام الليل، أشعر بلهفةٍ عارمة لأرضع كما أشعر بنفس الرغبة لأتعرى، عشت أياماً لأتخلص من هذه المشاعر المخجلة، كنت أعود إليها كلما سنحت لي فرصة، مثلاً عندما تسكر جدتي بذلك الخمر البلدي مع صديقاتها العجائز".. أو تعلق الجدة بالموتى حين تخاطبهم:" أنتِ يا ربيكا يا ابنتي؛ لولا خوفك من الولادة وربطك للولادة بالموت لما مُتِّ.. وأنت يا ماريو فقد قتلك التحدي رغم خوفك.. أما أنت يا زوجي العزيز فقد قتلك جهلك"..

وكان للشخصيّات دور مهم في تحريك الأحداث داخل نسيج القصة، فقد حفلت القصة بشخصيات رئيسيّة تجسدها الراوية "الحفيدة" التي تحاول عدم الخروج عن بوتقة الشخصية الثانية التي ارتكز عليها متن الحكي وهي الجدة، بالإضافة إلى شخصيات ثانوية كصاحبات الجدة وجاراتها والأموات.

يشكل الزمان والمكان فضاءين تجري فيهما الأحداث وتتحرك في ساحتهما الشخصيّات؛ وبالرغم من أنّ استيلا مارست التجريب وتهشيم البنى السردية الكلاسيكية عمدًا إلا أنّ الزمان عندها مُتّسم بالتصاعد والهبوط بين الماضي والحاضر. أمّا بالنسبة للفضاء المكاني فقد دارت أحداث القصة في أمكنة متعددة تحمل دلالات متباينة؛ كالقرية والطريق والغابة وقرب النهر، وكان لطبيعة المكان المحلي دور حقيقي في تشكيل المكان سرديًّا؛ وتجلى ذلك من خلال الملفوظات السردية واللغة (شجرة الباباي.. تقضي حاجتها في العراء.. فناء بيتنا الواسع.. غرفتنا من القش).

واستخدمت الساردة تقنيتين سرديتين في الرؤية السردية هما تقنية الرؤية مع أو السارد العليم المطلع على نفسيات الجدة، وما يجول بخاطرها (لأنّي أعرف عادتها، إذا أخذت دواء.. أياً كان نوعه فإنّها كانت ترغمني على أخذه خوفاً من انتقال العدوى إليّ)، (ردي لا يعني لها شيئاً سواء كان بلا أو نعم، لأنّها كانت ستسردها في الحالتين).. واستخدمت أيضا تقنية الرؤية من الخلف لترهن معرفتها بالشخصية المحكي عنها (أنا فقط عرفت أننا لا نموت بل نتحول إلى أشياء أخرى تحمل الصفات التي كنا عليها، نتحول ولكن دون ذاكرة فجدك لا يذكرني عندما تحول إلى تمساح)..

تستثمر ستيلا قراءاتها السابقة لتنسج لنا أجمل الحكايات فالوحدة السردية القائلة: (كان جدك الغبي سعيداً لأن الإنجليز أعطوه ورقة وقالوا له اذهب سوف يلقاك أناس هناك أعطهم هذه الورقة. حمل الرسالة وقد حشرها بين شقي عود من البوص حتى لا تتسخ، فصنع لنفسه راية صغيرة وهو لا يدري أنها راية موته. عندما وصل نفذ الحكم فمات والدهشة مرتسمة على وجهه الغبي" تتناص مع قصّة موت الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد الذي جاء حاملا رسالة من طرف عمرو بن هند إلى عامله في البحرين كتب فيها: "إذا جاءك كتابي هذا مع طرفة فاقطع يديه، ورجليه، وادفنه حيّا".

وبرغم الأخطاء النحوية القليلة التي شابت القصة إلا أنّها جاءت محبوكة تمامًا وذات لغة سردية جزلة تجيد نصب فخاخ الجذب والتشويق والحكي.. والأجمل من ذلك أن نهاية القصة تفقأ عين الموت وتحدق فيه: "ومنذ أن ماتت جدتي وعلاقتي بالنسور قوية، كلما ألمح واحداً أتأمله في تحليقه عسى أن أجد بعض صفات جدتي؛ ثدياً بحجم ثمرة الباباي.. عيوناً حمراء.. جفوناً منتفخة.. أو لبناً بطعم الملح).