وجهًا لوجه

د. غالية آل سعيد وعبد الرزاق الربيعي


في هذه الحوارية المتصلة الحلقات تتنوع الموضوعات المطروقة بالتنوّع الثري للحياة التي خبرتها د. غالية آل سعيد داخل وخارج عُمان ونحاول في كل الحلقة أن تكون ذات وحدة موضوعية متماسكة.. وفي هذه الحلقة نناقش ألق الموروث في إبداعها النثري.. فإلى الحوار...

س: ؟؟ يحتلّ الموروث الشعبي العماني حيّزا من متحفك (متحف غالية للفنون المعاصرة)، إلى أي مدى وظفت هذا الموروث في أعمالك؟
ج: لم أكتب الكثير عن الموروث العماني بسبب السنين الطويلة التي قضيتها في الغربة، ولكن رواية (صابرة وصيلة) من أعمالي الروائية التي تدور أحداثها كلها في عمان، وبذلك تستطيع القول إنني قمت بتوظيف الموروث العماني. في تلك الرواية تجد وصفا دقيقا لغرفة حارس المدرسة (مصبح)، تلك الغرفة تعكس نمط الحياة في ذلك الوقت، كذلك أزياء (صابرة)، و(أصيلة) التقليدية، ولا تنس التقاليد الأسرية والمجتمعية الموصوفة بتفاصيل دقيقة للغاية.

س:؟؟ كيف تجلّى هذا الموروث في ( صابرة، وأصيلة)؟
ج: لقد وقعت أحداث الرواية في عُمان في الستينيات من القرن العشرين، حيث تعليم المرأة كان محدودا، وانعكس ذلك على واقع (صابرة)، وصديقتها (أصيلة). تصدع بيئة صابرة الأسرية، والقيود التي فرضها عليها أخوها، كل ذلك يعبر عن الواقع الذي كانت تعيشه المرأة العمانية في ذاك الزمان، الأمر الذي ينطبق على مختلف المجتمعات العربية، والشرقية. وتجد تلهف (صابرة) للعلم كمثال آخر لواقع عاشته المرأة في المجتمعات العربية ككل، وليس في عمان وحدها. وحتى هذه الرواية كانت الهجرة محورها، لم تتناول هجرة العماني لكنها تمحورت حول مجيء المدرس الفلسطيني إلى عمان، وفي العهد الماضي هاجر العماني الى الدول القريبة، وصارت تلك الهجرة موروثا مهما في المجتمع العماني. استقطاب المدرس الفلسطيني (شهم) من بلاده الى عمان من التدابير التي اتخذتها الحكومة في عهد السلطان سعيد بن تيمور. (شهم) لم يهجر بلاده كالهجرة الجديدة التي ظهرت في هذه الأيام، والمتمثلة في هجرة العربي إلى الغرب، هجرته كانت من فلسطين الى عمان وبذلك تختلف نوعا ما. ترك (شهم) أرض بلده فلسطين بسبب التصدع الذي كانت، وما زالت تعيشه من قمع، وزج في السجون، وتقييد للحرية، ومعاناة في شتى المجالات. وصول (شهم) الى عمان في تلك الحقبة من الزمن دل على التعاون المشترك بين الدول العربية، أتى العرب ليعاونوا في النهضة التعليمية في عمان. إذن، الرواية في مجملها تعكس الواقع، والموروث العماني ولو من حيز ضيق.

س:؟؟ هل تعقدين صداقة مع شخصياتك؟
ج: عند كتابتي للرواية أحسّ كأني لا أعيش بمفردي، شخصيات الرواية تعيش معي، تجري خلفي، وتتبعني كظلي حاملة صراعها، لهوها، وصخبها، فرحها، وغضبها مع نفسها، ومع بعضها البعض، وتجدني أضحك معها، وأندهش من قسوتها على نفسها، أو من قسوة الحياة عليها، وكأنها أناس يعيشون معي على أرض الواقع. أنا أرتبط بشخصيات الرواية، وبقضاياها، وأزداد اصرارا على الكتابة، ولا أريد التنازل عن الكتابة بخاصة كتابة الرواية، فهل ذلك تسميه نوعا من الإصرار، إن الشخصيات التي تعيش في الواقع، وقضاياها تدفع المبدع كي يقوم بإخراجها من قاع الغموض، والتهميش، والضباب، ليرفعها لعالم الشفافية، والوضوح، وبذلك يضعها على سطور الرواية، أو أطراف النوتة، أو اللوحة. وتراها تتحرك، وترقص بحرية في فضاء مفتوح، تسمعها تبوح بالذي لا تتمكن من البوح به في العلن، وتقوم بالذي لا يسمح لها القيام به في الواقع المعاش. وبعد انتهاء الرواية تخرج الشخصية إلى متنفّس الواقع، فتنظر اليها أعين المتلقي، وتدور حولها أفكار المختص.
ذات مرة ظهر متصوّف سوداني على التلفزيون البريطاني، وكانت معه جماعة تنشد موشحات، وتعزف الموسيقى، وترقص على الايقاعات المختلفة، وجماعة من الأجناب ترقص معها. سألوه عن سر الرقص في المجالات الدينية، وهل هو مقبول؟، فرد قائلا: إن الرقص، والموسيقى أداتا جذب للذي لا يعرف شيئا عن الصوفية، لا تستطيع جذب من ليس لديهم معرفة بأمر عن طريق الخطب، والوعظ، وبالشرح المطوّل، والمعقّد عن الفكرة، وأسسها، ولكنك تستطيع الجذب بهذه الوسائل السهلة، فيقترب الناس، ومن هناك يبدأ التنوير، نحن نستخدم الرقص كأداة تسهّل الفكرة، وتحقق الاقتراب. هكذا الروائي، أو المبدع في أيّ مجال، فهو يستعمل القالب الابداعي، مضحكا كان، أم غير ذلك، به يجذب المتلقي ويقنعه. ومع مرور الأيام، يصبح الابداع في أي مجال قضية ذات جدوى، نجد أنفسنا مندفعين لإظهارها، ورفع الغطاء عن خباياها، والتحدث عنها عيانا بيانا، ومن دون خشية، أو مداراة.

س:؟؟ هل تصلين إلى مرحلة كشف أسرار شخصياتك؟
ج: بعدما كتبت رواية ("أيام في الجنة)، ومن ثمّ الروايات الأخرى، استنتجت أنه لست أنا التي تتحدث عن هموم، وأسرار شخصياتي، غسان وكلارى، هما من وظفاني أن أكتب، وأتحدث عنهما مستخدمة القالب الروائي. العلاقة بين الشخصيات الروائية، وكاتبها تقف على هذا المرتكز؛ لدى الشخصيات جدول للأحداث التي تخصّها، وتعنيها، ولن يثنيها الكاتب عن الإدلاء بها مهما حاول، ستدلي بما لديها حتى ولو كان الحيز ضيقا، وداخل مساحة قصة قصيرة ناهيك عن رواية.

س:؟؟ تنشأ أحيانا علاقة حميمة بين الكاتب، وشخصيات رواياته، لدرجة أن كاتبا كماركيز يبكي عندما تموت إحدى شخصيات "مائة عام من العزلة"، كيف تصفين هذه العلاقة؟
ج: يحقّ لنا أن نشبّه الروائي، والمبدع عامة بسائق حافلة توقفه الشخصيات أو يعثر عليها في موقف حافلات ما، تدخل الحافلة، ويواصل هو القيادة حتى يوصلها الى المكان المطلوب، تنزل، وتختفي وسط الزحام. أحيانا لا تنتهي العلاقة بين الاثنين عند هذا الحد، تعود الشخصيات لعالم الروائي مرة أخرى، كما حدث في رواية (سأم الانتظار). قضت الشخصيات زمنا طويلا بعيدة عن بعضها البعض، وعن مسرح الأحداث، ثم خرجت كلها لتمارس حياتها من جديد، وتتشارك في شكل من الأشكال. ففي الفصل الثاني، أخذ الدكتور (حاتم)، وصديقته (ربيكا)، وأمها (هلن بلايث) حصة الأسد من الأحداث، واحتكر ثلاثتهم مسرح الرواية. إلا أنه قبل نهاية الرواية، عادت الشخصيات الغائبة للمسرح، الواحد تلو الآخر، (بلندة) بحثت عن (ربيكا)، وأعطتها فرصة العمل معها من جديد، وبعد ذلك (خلف) وبعده شلة الأصدقاء (فريدي)، و(مارتن)، و(جاك)، و(شيلا)، و(هيزل)، عادوا الى الحافلة ذاتها، جلسوا على المقاعد، وكأنهم لم يفترقوا.
وهناك تشبيه آخر يمكن استعماله لوصف كتابة الرواية، أنت في حفل مفتوح، ولا تعرف من سيدخل من الباب لأنك لم تحصر الدعوة، والمدعوّين. وحسب الكاتب الياباني المعروف هاروكيموراكامي، قالإنه  لا يضع أسسا مسبقة لرواياته، ولا يعرف عدد الشخصيات، ولا ترتيبها، ولا تعرفه بأسمائها، أو ماذا ستفعل في روايته. يقول إنه يرفع القلم، فتأتي الشخصيات بمحض ارادتها، وبتلقائية، ومن دون موعد بينه، وبينها، إنه يتعرف عليها حين تحلّ ضيفة على العمل، وتبدأ تطرح قضاياها، تكشف خبايا حياتها، وتقف بين سطور عمله الروائي. يقول هاروكي انه كاتب الرواية، ويفترض أنه صانع الشخصيات، رغم ذلك لا يعرف من سيأتي في روايته، ومن سيحلّ ضيفا بين جنباتها، حتى ينتهي من كتابتها. هو تماما كالقارئ لا يعرف النهاية حتى يصلها، وإن عرف مسبقا، فلعبة الغموض في كتابة الرواية انتهت، وفقد عمله التشويق المطلوب.
أتذكر عندما كنت أكتب رواية (سنين مبعثرة) عملت (دافني) كسكرتيرة لعدة مدراء في الصحيفة التي كان يعمل فيها البطل (ناجي). حصل الأمر من دون إعلان مسبق، لم أبن أسسا محددة المعالم لشخصية (دافني)، كما لا أبني أسسا لأي من شخصيات رواياتي. تأتي الشخصيات بمحض ارادتها، وتغادر بمحض إرادتها، إن أعجبتها الرواية تواصل السير، ولا تكترث لي بصفتي قائدة الحافلة، أو منظمة الحفل. هي من يقرّر الخروج، فتدير لي ظهرها، وتسير في طريقها، منسحبة الى الخارج، تختفي داخل الضباب، وضوضاء العالم، تنتهي علاقتي بها، ربما ترجع ثانية، وربما تأتي شخصيات أخرى، وهكذا.

س:؟؟ هل من مثال على ذلك؟
ج: في رواية (سنين مبعثرة) دخلت (دافني) الى المشهد، لكنني لم أتصور أنها ستحوذ على دور كبير في أحداث الرواية، ينافس البطل المزعوم (ناجي). وضعت (دافني) الأمور في يدها؛ ركضت، وصرخت، وانفعلت، وأحبت وندمت، ولبست، واشترت، ونامت، وصحوت على سطور هذه الرواية ومسرحها. ووجدت نفسي أصرخ مستغيثة أخاطبها قائلة: توقفي يا (دافني) هذه ليست روايتك، هذه رواية (ناجي). ولكن (دافني) أبت التوقف، ورفضت الانصياع لطلبي، وواصلت الركض على صفحات الرواية إلى أن شبعت، واكملت قول، وفعل الذي أرادت قوله، وفعله. وفي آخر المشوار هي من أصابها الملل، وحينها بدأت تلملم أطراف حياتها، وتغادر، ترجلت من الرواية، وترجلت من الحياة عندما وجدتها تموت في يوم مشمس بين أحضان حبيبها الموسيقي الافريقي (سيوم علوان احمدو).

س:؟؟ هل تتعبك هذه المواقف الصادرة عن شخصيات رواياتك؟
ج: أصدقك القول، هذه المواقف التي أتصورها بيني، وبين شخصيات رواياتي، هي مواقف محببة إلى نفسي، وهي التي تجعلني أصرّ على كتابة الرواية، ألتقط هموم الناس، وقضاياهم، أفصح عنها إما في قالب روائي مؤلم، أو مضحك، ولكنه مشحون بالمعاني، والخيال. يجب أن أحفز قارئ الرواية على الاهتمام بالناس، ومعرفة همومهم، وقضاياهم، التي ربما لم يعرها أحد اهتماما كبيرا من قبل. أظن أن الرواية عبارة عن لعبة دهشة ثلاثية الأبعاد بين الراوي، والقارئ، والشخصيات، ولذلك تجدها مساحة واسعة، وفضاءات مفتوحة من بداية السرد حتى نهايته.

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك