حميد بن مسلم السعيدي
المُتعمق في قراءة الأيقونة العُمانية يظل عاجزاً عن فهم وتفسير مكنوناتها وأسرارها، وربما يهيم البعض في جزء من خيالاته فيحاول أن يرسم سيناريوهات من أوهامه ليقنع ذاته بأنه في الطريق الصحيح، وأن هذه الأيقونة العمانية من السهل تفسيرها وفك شفرتها واختراقها، دون أن يدرك الحقيقة الذاتية لهذا البناء المتكامل والذي لا يمكن أن يتكرر في مكان آخر، حيث الارتباط الحقيقي بين الإنسان والأرض، ليشكل أيقونة جميلة عبرت كل الأزمنة ورسمت لوحة من الإنجازات العظيمة التي أثبتت مدى قوة تلك العلاقة القائمة بين الإنسان والأرض، فخلقت روحاً أصبحت الرابط بينهما ليشكل كينونة واحدة ذات جسد واحد لا يمكن أن ينفك أو ينشطر، مهما بلغت الأحلام ذروتها لدى الآخرين، حيث يبقى الوطن شامخاً بنماذج عظيمة من الشخصيات العمانية التي قالت كلمتها عبر التاريخ ورسمت إنجازات ظلت محفوظة في أذهان أبناء هذا الوطن، فأصبحوا راية ومثالاً للشجاعة والتضحية في سبيل عمان.
لذا لا غرابة أن نجد من يحاول أن يولج نفسه بينهما رغبة منه في إحداث شرخ في تلك العلاقة، إلا أن هذا التصرف يحتاج منه ليفهم التاريخ العماني وجذوره المتعمقة والتي عبرت الأزمنة والأمكنة في فترات ومراحل تاريخية متغيرة استطاعت أن تبني حضارة عظيمة لم تكن محصورة في ذات المكان والأرض والإنسان وإنما تجاوزت الحدود لتشكل المفهوم الحقيقي المتكامل في بناء الحضارة الإنسانية التي تجاوزت الحدود المحلية والإقليمية لتصل إلى العالمية سواء في العالم القديم المعروف بثلاثيته أو العالم الحديث الذي كان للعمانيين دور في اكتشافه وفهم أسراره، فالعمانيون بنوا حضارة قائمة على الحوار والتواصل مع الآخرين، وكان أصحاب رسالة سامية قائمة على التسامح والسلام، فجنوا ثمرة تلك الرسالة في كسب العلاقة مع مختلف شعوب العالم من الصين شرقاً حتى الأمريكتين غربا.
هذا الأمر يقود الكثير من المفسرين إلى فهم الحياة الحديثة التي يتعايشها هذا الوطن بمكوناته الثلاثة الحكومة والمواطن والأرض، والتي أثبتت مدى تماسكها وقوتها في مواجهة كل الصراعات والصدامات المختلفة وظلت متمسكة بالمنهجية السامية التي رسمها جلالة السلطان قابوس ليس في تشكيل دولة فقط وإنما في بناء الإنسان العماني وشخصيته الاعتبارية، لذا لا ريب أن يكون للإنسان العماني مكانة مختلفة بين الشعوب تختلف عن أي مكانة يحظى بها شعب آخر، وهذا الأمر جاء نتيجة للتربية الفاعلة والتي أبرزت هذه الشخصية التي تتميز بثباتها وكرامتها واحترامها وأمانتها وإخلاصها للوطن.
والقارئ للتاريخ يجد أن عمان مرت بمراحل تاريخية كان لها دور في تغيير دفة التقدم والحضارة، بل وتغيير المنهجية التي يقوم عليها الوطن، ولكن تلك المراحل التاريخية أبرزت المعدن العماني الأصيل، والتي اعتمدت على قوتها الداخلية المتمثلة في الجبهة الداخلية، والتي كلما كانت متماسكة ومتحدة كانت تشكل الخط الدفاعي الأول في مواجهة الأعداء والخط الهجومي الأول في طرد الأعداء، فكل الأحداث التاريخية الرئيسية كانت قائمة على الجبهة الداخلية للوطن، ولا يمكن استرجاع هذه الأحداث لتوضيح ذلك، ولكن نحن بحاجة إلى فهم الحياة المعاصرة من خلال التفكير في الماضي والاستفادة منه في بناء المستقبل.
فعندما أصبحت الجبهة الداخلية قوية ومتماسكة انعكس ذلك على بناء الدولة وعلى قوتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، حتى في الفترات التي استعمرت فيها المناطق الساحلية، كانت تعتمد على ضعف الجبهة الداخلية وتمزقها ولكن حينما توحدت كان ثمرة ذلك إمبراطورية عظيمة تحكمت في منطقة المحيط الهندي وبنت دولة عظيمة شملت قارات العالم الثلاث القديمة، هذا أحد الأسرار المتعلقة بقوة هذا الوطن فهو يعتمد على تماسك الجبهة الداخلية ووحدتها وقوتها، والكل يدرك أنَّ هذه الجبهة متماسكة مع وحدة الوطن ومكانته، لذا فالعبث بهذه الجبهة يُعد من الخطوط الحمر التي لا يمكن السماح بتجاوزها.
هذا الأمر يعود بالآخرين أن يقرأوا جيدا هذا الهيكل المتماسك والذي لا يمكن اليوم اختراقه أو زعزعة مكوناته، وبالرغم من وجود هفوات نتيجة ضعف الإيمان الوطني لدى البعض وتعرضهم للمغريات المادية، إلا أنها لا تستطيع أن تؤثر على هذا البناء الوطني والذي دائما ما يكون أكثر قوة كلما ظهرت أزمة جديدة، يبزغ نور المواطنة الحقيقية ويصبح الوطن ورايته من أولويات المواطن والذي أصبح أكثر وعياً وفهمًا للواقع المعاش ولم تعد الحياة المادية بمغرياتها تستطيع أن تكسر هذا الرابط الدموي الذي يربط الإنسان بهذه التربة العظيمة.
فالمواطنون الشرفاء هم الذين عاهدوا الله والوطن والسلطان بالحفاظ على مكتسباته، والزود عنه والدفاع عن أراضيه وممتلكاته، والتضحية بأرواحهم في سبيل أمنه واستقراره، ولا يمكن أن يرضوا بأن يبيعوا أرضهم ووطنهم مقابل ريالات معدودة، فهو عهد على جبين كل مواطن عاش على أرض هذا الوطن، وفي ذات الوقت وسام عار وجُبن وخيانة لكل من باع هذا الوطن وتعامل ضده، وعبث بأمنه واستقراره.