جسد و قافية

 

 

محمد علي العوض

 

الجسد في الخطاب الصوفي ليس مادة خالصة فهو عند ابن عربي "كل روح ظهر في جسم ناري أو نوراني" متمسكا بثنائية الجسد والروح، إذ لا وجود لأحدهما بدون الآخر: (... ولمّا كان الجسد لفظا والروح معنى فلا يمكن للجسد أن ينفصل عن الروح ولا يمكن للروح أن تكون موجودة إلا بواسطة الجسد حيث يتشكل الجسد بها وتتشكل به أي انه غطاء لجوهرة الروح، تلك التي تتلون بتلون الجسد، فالماء شكل إنائه).

أما في الشعر العربي فقد تجاوز مفهوم الجسد نطاقه الضيّق إلى مفهوم الجسدانية عبر خطاب يفيض حسيّة وشبقا، و"أكثر ما تدور عليه لغة الجسد في الشعر العربي هو موضوع الغزل، فالشاعر يفتتن بجمال الجسد، والافتتان هو الخطوة الأولى التي تقدمها إيحاءات الجسد.. فالجسد هو لسان حال صاحبه، يتحدث إلى العيون والقلوب بلغة الإيحاء" فها هو امرؤ القيس يرسم صورة واضحة لامرأة هام بها متناولا أجزاء مختلفة من جسدها "غير المفاض" أي ليس مترهلا، وخدها الأسيل "الناعم" في تمثيل "الحياء" وعينيها السوداوين وهما تراقبان بحذر كما تراقب وحش "ظبية" مطفلها "رضيعها"، وجيدها الذي يشبه جيد الظباء وتزيده القلائد جمالا:

مهفهفة بيضاء غير مفاضة

ترائبها مصقولة كالسجنجل

تصد وتبدي عن خد أسيل وتتقي

بناظرة من وحش وجرة مطفل

وجيد كجيد الريم ليس بفاحش

إذا هي نصّته ولا بمُعطِّل

 

 

ويرسم عمرو بن كلثوم لوحة حسيّة لجسد محبوبته بكل وضوح مادحا ثدييها اللذين "يشبهان أنياب العاج بياضا وانتصابًا.. لينة القوام، نعم لها كشح -أي خصر- نحيف ولكنّها ممتلئة من أعلى ومن أسفل":

وثديا مثل حق العاج رخصا

حصانا من أكف اللامسينا

ومتني لدنة طالت ولانت

روادفها تنوء بما يلينا

ومأكمة يضيق الباب عنها

وكُشحا قد جننت به جنونا

 

ومن ذاك قول علي بن الجهم يذكر ليلة التصق فيها جسد محبوبته لشدة أن لو خمرًا أريق بين موضع التصاقهما لم يتسرّب:

فبتنا جميعا لو تراق زجاجة

من الخمر فيما بيننا لم تسرب

 

وأتى عنترة بن شداد بتمثيل جسدي جديد وفريد مزج فيه بين "ملحمة الحرب وملحمة الحب" حين قال:

ولقد ذُكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيضُ الهند تقطرُ من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنّها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

 

 

 وأتى المتنبي في تمثيلاته للجسد بدلالة قبح الوجه حين هجا كافور وجعل شفته السفلى المدلاة تصل إلى نصف قامته:

وأسودٌ مِشفره نِصفهُ

يُقال له أنت بدر الدُّجى

 

حضور الجسد في السرديات العربية قديم لاسيما في مؤلفات "طوق الحمامة" لابن حزم و"مصارع العشاق" لابن سراج و"روضة المحبين" لابن قيم الجوزية، وإن كان ذلك الحضور مبنيا على أنساق التصورات الثقافية الإسلامية المستمد من النصوص الفقهية والصوفية والأدبية، والتي رسمت نموذجا صوريا للجسد وفق صبغة القدسية؛ بخلاف السردية الحديثة التي انتقلت بالجسد من خانة التهميش إلى الطبيعة المتحركة بل "عُدّ قطبا رئيسيا لاهتمامات المعاصرة ومرجعا ضروريا لكل محاولة تروم فهم الوضع الإنساني بأبعاده المختلفة". وكما قال بنكراد "إنّ إدراك الإنسان لجسده لا يتم إلا من خلال الإلمام بكافة تفاصيله" مما يجعل الجسد يتشكل كدال متكامل يكتفي بذاته، وقادر على توليد سلسلة لا متناهية من الدلالات انطلاقا من تنوع الأنماط الصانعة لكينونته، وهي الخطوة الأولى نحو انفصاله عن الأشياء والغوص عميقا نحو عالم الذات".

إنّ الجسد مكون مركزي في الرواية، يبوح بوظائفه ورموزه وطقوسه وتضاريسه، وذو علاقة لصيقة بعناصر السرد الروائي من شخصية ومكان وزمان وحدث ورؤيا، فكل عنصر يرتبط بالجسد من خلال عدد من التمثلات والمؤثرات.

وقد ساعد تطور خطاب الرواية العربية الحديثة في نبش المسكوت عنه، وبناء أسئلتها حول عدد من التابوهات، بل باتت تشكل خطابها عبر منهجية خلخلة المقدّس وتفكيك المسلمات، ليصبح نصّا مختلفا يتحوّل اختلافه إلى سؤال متجدّد على الدوام لا حدود له ولا ضفاف.

فعلى سبيل المثال – لا الحصر- اشتغل واسيني الأعرج في روايته "أحلام مريم الوديعة" على انتهاك المقدّس وتدنيسه، ورسم تمثيلات خاصة بالجسد تُعبر عن الإيروسية، ومظاهر التشويه والرغبة المدنسة: "حتى طفولتي مزقها، قال إنّ فيها رائحة الرجل الذي فض بكارتي أول مرة"، "تمزق الذئاب التي تنام في حفر المدينة جلدي ولحمي"، "يغرسون رؤوسهم في لحم الزهراء الفولنطارية"، "عمي الذي استعار زوجة أبي، ليمارس عليها جوعه الجنسي"، "وأنا الولهان بتفاصيل نهديك الجائعين للحظة الهاربة من تحت نظارتي عني".

 وليعبر فيها أيضا عن الرمزية المقدسة: "لأول مرة أكتشف جسد مريم كان خليطا من النور والنعومة والغيوم، ولأول مرة أكتشف خيالاتي باتجاه مريم كانت محدودة" وكذلك الطبيعة: "الشعر الساحلي الذي صفرته شمس شواطئ أتعب الرياح، ولم يتعب فاستقر بعد نشوة الانتصار على اتساع جبهتك العريضة وتغيب الشمس تحت ركض الغيوم الكثيفة".

كما نلمح في الرواية تمثلات أخرى دلالاتها التشيؤ، ووعي الجسد بذاته، والوصف الكلي أو الجزئي للجسد "مسدت على صدري بنعومة أظافرك. بدأت أكتشف أسرارك الوثنية التي ألهبت أحلام الآخرين".

أما محمد الخالدي في روايته "سيّدة البيت العالي" فقد صوّر الجسد الأنثوي مكشوفا للعيان عبر مرايا اللغة التي تنقلت بين جغرافيته وأجزائه؛ جاعلةً منه فضاء متنوّعا للمتعة. حيث تدور أحداث الرواية حول جدلية "الممنوع مرغوب" التي تجسّدها شخصية "نورة" وعشاقها بنظراتهم التي تخترق جسدها وتوقهم إلى الظفر بها، وارتفاع حوائط الصدّ أمام صرعى جسدها؛ ليتصاعد أوج الحرمان ويبلغ مداه، لدرجة أنّ أحدهم اشترى "نظّارات مقرّبة" لإمتاع ناظريه وإطفاء نار الرغبة؛ بالإضافة إلى لجوء قتلى جسدها الآخرين إلى سلاح الشعوذة والتمائم من أجل ترويض السيّدة العصيّة.

وتجلت براعة الخالدي في أنّه على الرغم من استخدامه لغة حسيّة مستعيضا بها عن اللغة الإيحائية ورمزيّة الاشتهاء المحظور؛ إلا أنه أكسب جسد "نورة" قدسية خاصة أشبه بالأسطورة، وأعاد للجسد الأنثوي اعتباريته؛ فأضحى الوصال في الرواية حلمًا، وأصبح المدنس مقدّسا؛ بعكس واسيني الأعرج في "أحلام مريم الوديعة" الذي جعل الجسد – رُؤيويًا- مُشاعًا للفواعل والأحداث.