أجساد تحت وطء المفاهيم

 

 

محمد علي العوض

 

على الرغم من أنّ رصد وإحصاء مفاهيم الجسد في التراث الأدبي العربي أمر تنوء به طاقة الكتب والبحوث؛ إلا أنّ الدراسات الأدبية والنقدية -العربية- في العصور السابقة لم تحفل بدراسة مفهوم الجسد الأنثوي وتمثيلاته كثيرًا، ولم تتناوله حديثا إلا من خلال علمي الإنثروبولوجيا والاجتماع بعد انشغال الحداثة به؛ ولم توله هذه الدراسات الحديثة -على قلتها- العناية الكافية كما لم تحفل بتقصي تمثيلاته وقراءتها جهرا على رؤوس الأشهاد؛ باعتباره تابو لا يجوز الاقتراب منه؛ اللهم إلا بعض الدراسات من هنا وهناك مثل "تمثلات الجسد من خلال الرواية التونسية" لعروسية النالوتي، ودراسة "مفهوم الجسد عند بلزاك" لإلهام سليم، ومعجب الزهراني في بحثه "تمثيلات الجسد في نماذج من الرواية العربية المعاصرة" وغيرها؛ بعكس الثقافة الغربية التي استفاضت في خطابها الحداثوي بتناول الجسد وفق منظورين مختلفين، الأول: "النظرة العلمانية التي تنادي بفكرة السقوط في الجسد المدنس، لأنّ الجسد يعتبر الجزء الملعون من الوضع البشري الذي تفاهم العلم والتقنية على إعادة صياغته ونزع الطابع المادي عنه من أجل تخليص الإنسان بشكل ما من انغراقه في اللحم، بينما الثاني يرى فيه الخلاص عبر تمجيد الإنسان بإحساسه وصياغة مظهره والبحث في الهوس، جاعلة من الجسد موضوعا مميزا، لكن في كلتا الحالتين فصل فيها الإنسان عن جسده، ونظر إليه كواحد في حد ذاته، إنّه الأرومة التعريفية غير القابلة للحل.

والجسد وحدة كليّة لا يمكن تفكيكها، فهو طاقة بيولوجية وطاقة جنسية وطاقة أيديولوجية تأخذ معناها من بعدها التداولي في أي ثقافة من الثقافات، لكون الوظيفة

البيولوجية تخرج من إطارها العضوي لتأخذ بعدًا إشاريا جديدا، حسب التواضع الثقافي لتكوّن هوية الإنسان وتصنع أبعادها المختلفة، لأنّ هذه الأبعاد هي التي تؤطر صورة الجسد حسب منظومته الثقافية. وبمعنى آخر أنّ الجسد علامة سيميائية "كينونة" تأخذ أبعادها الدلالية من خلال المواضعة الاجتماعية داخل الثقافات؛ فلفظة الجسد دال، والصور المرتبطة به مدلول، والمرجع هو مجموع

الترسبات الفكرية في المخيلة الثقافية/الاجتماعية الذي تنتمي إليه ثيمة الجسد، أمّا الأنظمة الدالة عليه فهي مجموع السياقات والخطابات الأدبية التي تتناول الجسد.

لقد اهتم الخطاب الديني الإسلامي في مباحثه الفقهية والفكرية والتشريعية بالجسد، فعقوبات الانتحار والقتل دليل واضح على تلك العناية وصبغه بالقدسيّة، باعتبار أنّ تغييب الجسد قسرًا أمرا غير مقبول. وتعد الأسس التي وضعها الإسلام لاحترام الرجل جسد المرأة والعكس أحد مظاهر ذلك الاهتمام.

ومن أبرز الدراسات التي تناولت مفهوم الجسد في المجتمع الإسلامي دراسة (مالك شبيل) التي تناولت الجسد، من خلال أربعة محاور: (الجسد، الجسدية، الجسدية، والجسدانية). فالجسد يعني الصورة التعبيرية للإنسان وحضوره الجسدي في العالم، وغياب الجسد يعني غياب الإنسان/ الموت.

أمّا الجسدي عند شبيل فيعني قدرة الجسد على التعبير، أي حركة الجسد من إشارات وإيماءات ومشي وتعابير الوجه وغيره.

وقسم فريد الزاهي الجسدي إلى ثلاثة جوانب، الأول الجسد اليومي الديني الذي يمارس شعائر العبادات المصحوبة بالخطابات كالصلاة والحج وغيرها، ثم الجسد اليومي الاجتماعي والذي يمارس الأكل والنظر والجلوس.. الخ، وثالثا الجسد الشخصي الذي يفقد طابعه الذاتي باندماجه مع القدسي كالعلاقة الجنسية ومقاصدها الثوابية وحلالها وحرامها.

أمّا الجسدية فتعني الصيغة البيولوجية للحياة، وهي تقوم بفعلها كما لو كانت جسدا مقلوبا، وبمعني آخر هي الوجه الباطن الشخصي لهما.

والجسدانية – كما يشير مالك شبيل- هي الممارسة العليا للجسد في كل تمظهراته التأويلية، وهي البنية الفوقية التي يتم عزف المقطوعة الجسدية. ويشرحها آخرون بأنّها الاحتفال بكل ما هو حيّ وفعّال في الإنسان، والأمل الإنسانيّ بالرغبة في الحلم، بلحظة الغناء والبوح، بتلمس الجسد، في كلّ تضاريسه. إنّها لحظة معانقة الواقع وعدم الهروب منه فالجسدانية هنا فلسفة تقوم على التنوع الذي يسود العالم، الروح واحدة، أمّا الجسد فمتعدّد، وبتعدّد الأجساد تتعدد الرؤى وتتعد التجليات، الأمر الذي يفتح باباً واسعاً للاختلاف والتنوع ونخرج من دائرة النمط والنمذجة إلى دائرة التحوّل والصيرورة.

وقد أشار الإسلام إلى الجسدانية كما في قصة سيدنا يوسف، حيث تكشّفت الجسدانية من خلال انتقال الجسد من حالة السكون إلى حالة الحركة والتفاعل مع الموقف الغريزي (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ...) (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ..).

البلاغة العربية صورت العلاقة الجسدية بين الجنسين في صورة كونية تفيد بالعمران وسيمياء التواصل، حيث شبه القرآن الكريم الذكورة بالمحراث، والأنوثة بالأرض الخصبة (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم). وهنا قد يقول قائل إذًا نأتيها أنّا شئنا ولو من دبرها لتأتي الإجابة في سياق الآية السابقة، وهو أنّ الحرث يؤتى حيث نباته، والنبات يقصد به هنا ما ينجم عن هذه العلاقة من مواليد وحفظ النوع من الانقراض؛ أي موضع الإنجاب وهما الرحم والفرج.

في نشيد الإنشاد بالكتاب المقدس يتمظهر الجسد الأنثوي من خلال باقة من التشبيهات والانزياحات تجمع في فرادة ما بين المحسوس والمعنوي في قالب من الجسدانية المفرطة (ما أجمل رجليك بالنعلين) (دوائر فخذيك مثل الحلى) (سرتك كأس مدورة) (بطنك صبرة حنطة مسيجة بالسوسن) (ثدياك كخشفتين) (عنقك كبرج من عاج) (عيناك كالبرك) (أنفك كبرج لبنان) (قامتك هذه شبيهة بالنخلة، وثدياك بالعناقيد). والجسد في الكتاب المقدس مسكون دوما بالحنين للجسد الآخر والتماهي معه في إطار الحب..

في الصوفية قول مأثور يخاطب السالكين في طريقة العرفان: (السير بالأرواح لا الأبدان) فالجسد عند المتصوفة يتحرك من حيز الفيزيقي إلى الميتافيزيقي الروحي. والجسد عندهم "وسيلتهم في المعراج.. وبداية الصعود إلى عالم تتوحد فيه الأشياء ويشعر الإنسان بانتمائه العضوي مع الجسد الكوني العام".

ويختلف شاكر عبدالحميد مع هذا الرأي حيث يرى أنّ "التصوف في كثير من حالاته أدى إلى حل ثنائية الروح والجسد على حساب الجسد ولصالح الروح أو الذات، وبذلك ساهم على نحو واضح في عمليات الانسحاب من المشاركة الفعّالة في عمليات التمرّد ومقاومة الظلم، كما أنّه أدى إلى حل الثنائية بين الأنا والآخر لحساب الآخر".

في كتابه "الجسد في شعر الحداثة" اختلف عبد الناصر هلال مع ما سبق، معضدا الرأي القائل بأنّ الصوفية لم تحجب الجسد في مقابل الروح، بل إنّ الجسد وسيلتهم في المعراج الروحي حين تتم تنقيته من العوالق والشوائب حتى يكون قادرا على أن يكون معراجا للروح، متسائلا: كيف يعمل الصوفي بدون الجسد الذي يؤدي طقوس الصوفي فهو الذي يجوع ويكابد.. ويضحي بكل الملذات لأجل أن يكون لائقا بالروح، فالتصوف في حالاته العليا ما هو إلا استكناه منظم لحقيقة الوجود.