عبيدلي العبيدلي
.. وعلى مستوى رصد مقومات النجاح الرئيسة يمكن سرد الأكثر تأثيرا بينها في عدة نقاط، ومنها:
- القضاء على الأنانية السياسية، ونبذ النزعة الإقصائية، وهذه من سمات القوى السياسية المراهقة التي تزهو بنسب الانتصارات السريعة لنفسها، ولا تتردد في إقصاء الآخرين، كي يتسنى لها أن تنعم بالأضواء التي ترضي رغبة الزهو لديها، وتضمن لها الاستفراد، وإن كان المؤقت، بزعامة، وليس بالضرورة قيادة مشروعات الحوار الوطني. وغالبا ما تكون مثل هذه القوى التي تسكنها مثل تلك السلوكيات هي الضحية الأولى، يسبقها لتلك النهاية مشروعها للحوار الوطني الذي لن يتردد في حفر قبره بيده. فلكي ينتقل مشروع "الحوار الوطني"، من دوائره الضيقة، ويتخلص من سلبيات حلقاته المغلقة، ينبغي له أن يتغلغل، دون فرض مسبق، أو إقصاء طارئ للآخر من لدن الفئة التي تحمل راياته، في صفوف أعلى نسبة ممكنة من الشعب، التي تشكل السياج المطلوب لحمايته من القوى التي تستهدفه.
- وضع معايير مسبقة تضمن القياس العلمي لمدى تقدم المشروع والنجاحات التي يحققها، او حتى عناصر الفشل التي قد يعاني منها، ليس بالضرورة في المراحل المبكرة من إطلاق ذلك المشروع. ويندرج تحت هذه الممارسة القدرة الفائقة على قياس نجاح تسويق مشروع الحوار الوطني. إذ ينبغي امتلاك الأدوات والنظم القادرة على قياس مدى نجاح مشروع "الحوار الوطني"، وبالقدر ذاته تلمس تعثره في كل مرحلة من مراحل حياته، عندما يلج مرحلة التنفيذ، ويلقى القبول لدى أوسع فئات ممكنة من القوى الفاعلة.
- التوقيت الصائب، ليس لبلورة المشروع في صفوف القوة السياسية التي ستقف وراءه، فحسب، وإنما في أوساط فئات الدائرة الأوسع التي تشمل القوى الوطنية العاملة في الساحة السياسية أيضا. والتوقيت الصحيح هو الذي يكشف عن قدرة الجهة السياسية التي تتبنى المشروع على قراءة خارطة الشارع السياسي بشكل واع وناضج على حد سواء، بحيث تحدد، بشكل دقيق ساعة الصفر التي تفصح فيها عن ذلك المشروع. وربما يستهين البعض بالنسبة التي يستحوذ عليها التوقيت، مقابل العوامل الأخرى. فهو في مراحل معينة، وبخلاف تقديرات البعض، يحتفظ بالحصة الأكبر في تحديد إحدى عمليتي النجاح أو الفشل، فالإخفاق في تحديد ساعة الصفر، ربما يكون كعب أخيل الذي يجهض جهود إنجاح الحوار الوطني.
- الاستعانة بالقوى الخارجية، التي ربما تتوهم القوى التي تقف التي تقف وراء طرح مشروع للحوار الوطني، وهذا يكشف الكثير من السذاجة السياسية التي تعبر عن ضحالة الخبرة المطلوبة، أنها (القوى الخارجية) تشكل الرافعة التاريخية التي بوسعها أن تفرض ذلك المشروع على القوى الوطنية الأخرى، سواء تلك المناصرة له، لكنها تحمل بعض الملاحظات الثانوية الهامشية على محتوياته، أو تلك التي ترفضه جملة وتفصيلا، لا تكف عن تطوير قدراتها الذاتية من أجل الوقوف في طريقه وإفشاله، في مراحله المبكرة أو تلك النهائية. فما ينبغي التأكيد عليه هنا هو ما تثبته وثائق تاريخ تطور الجنس البشري السياسي، وهو أن العامل الخارجي، دائما يحتفظ بأوراقه الخاصة التي لا يكشف عنها إلا في مراحل متقدمة من مراحل تطور الحوار الوطني، وهي غالبا ما تكون غير متطابقة مع ذلك المشروع الوطني الأصيل، ولذلك نجدها تقاوم هذا الأخير، ولا تدخر جهدا من أجل إفشاله، بالطرق السلمية، وفي حال تعثرها، ليس هناك ما يمنعها من اللجوء إلى تلك العنيفة، بل وحتى غير الأخلاقية.
- القوى الهامشية، أو ذات الحضور في دوائر ضيقة، والمقصود بها هناك تلك التي تنتمي إلى الأقليات، أو الطوائف الصغيرة، أو تلك المتكاتفة حول قضية ربما لا تكون هي المتصدرة لقائمة أهداف وتطلعات المشروع الوطني. ومهما بلغت ضآلة حصة مثل هذه الفئات مقارنة مع غيرها من طوائف المجتمع الأخرى، لكن من الخطأ القاتل تجاوزها، أو حتى إسقاطها من قائمة من يحق لهم المشاركة في أي حوار وطني أصيل وشامل. الأخطر من ذلك، غالبا ما تشكل مثل هذه القوى، وخاصة الأصغر حجما بينها، حصان طروادة الذي تخترق من خلاله القوى الخارجية نسيج المجتمع، وتحولها إلى عامل حاسم في وجه عمليات إنجاح أي مشروع وطني جاد للحوار.
- التقيد بآداب الحوار، وقيمه، ورغم أن البعض يدرجها في قائمة المتطلبات المثالية، أو غير الواقعية، لكنها في حقيقة الأمر مسألة في غاية الأهمية، ونكتفي هنا بالإشارة لها، داعين من يريد التحلي بمثل تلك الآداب، أن يعود للأدبيات الجادة، بما فيها تلك العربية القديمة، كي يكتشف أن تلك الآداب موجودة، ودعوات التقيد بها تتصدر قائمة إنجاح أي حوار وطني. ومن هنا فمن يغفلها أو يحاول تجاوزها سيجد نفسه أمام مآزق حقيقية ولدتها تلك التجاوزات.
وفي مقابل مقومات هذه تقف في الجهة المقابلة قائمة عوامل الإخفاق أو الفشل، والتي يمكن رصد الأكثر أهمية منها في النقاط التالية:
- غياب الشمولية وبروز النواقص، وهما عنصران متكاملان لا يعمل أحدهما في غياب الآخر. فعندما يطرح موضوع الحوار الوطني على بساط التقويم، من الطبيعي أن تبرز العديد من القوى، سواء تلك الفاعلة أو الهامشية، باحثة عن النواقص التي يعاني منها، أو حتى تلك التي يفتقدها كي يحق الوصول إلى درجة القبول. لا شك أنّ الحديث هنا لا يرصد مشروعا مثاليا، لكن الحديث يتناول مشروعا تتوفر فيه الحدود الدنيا التي تؤهله أن يحقق الشمولية القابلة للنمو والتطور، وتقوم ركائزه على سد النواقص التي تتيح للآخرين، بمن فيهم الانتهازيون والقوى الطفيلية النيل منه.
- التفرد بالصدارة، وممارسة سياسة الإقصاء والتهميش للقوى الأخرى، بشكل علني ممنهج أحيانا، وعشوائي أحيانا أخرى. مثل تلك السياسات لا تجرد المشروع من العوامل التي يحتاجها لبناء نظامه البيئي (Ecosystem) المطلوب فحسب، لكنها أيضا تشرع بوابات ذلك المشروع لاختراقات سلبية في غاية الخطورة، لعل أولها، وأكثرها احتمالا تلك التي يلجأ إليها من يهدد ذلك المشروع مصالحه، وخاصة القوى الخارجية المتربصة به، كي تنقض عليه وتجهضه وهو في مراحله المبكرة.