بلوك عرب & غشمرة

 

محمد علي العوض

بأي حال؛ لم يكن رمضان هذا العام مناسبة للتراحم والتوادد بين الشعوب والحكومات العربية؛ نفحات الشهر الكريم تحوّرت فصلا جديدا من مسرحية التناحر والضرب تحت الأحزمة و"شذر مذر".. كنا نحتاج فيه هرم بن سنان جديدًا ليفض حرب داحس وغبراء العصر الجديد.. كنا نتمناها أياما فضيلة تنطفئ فيه نيران العداوة وحالة الاستقطاب الحادة لا أن تزيد فيها النيران اشتعالا ويكون الحال "ضِغثا على إبَّالة".

أدوات الحرب هذه المرة لم تكن سيوفا يمانية أو رماحا ردينية كما اشتهر العرب؛ بل بأدوات ميديا العصر، والدراما والمواقف السياسية..

حتى في كرة القدم "اللُّعبة" تشتت رأي العرب فانقسموا إلى فُسطاطين، دول وقفت مع المغرب في خندق واحد وصوتت لصالح احتضانه مونديال 2026 وأخرى انقلبت على إجماع جامعة الدول العربية بدعمها الملف الأمريكي على حساب الملف المغربي الشقيق، الذي حلّت لعناته على المنتخبات العربية في مونديال روسيا الجاري في شكل هزائم متتالية بعد أن انتصر الملف السياسي على الملف الرياضي.

شكلت الشاشات البلورية والميديا ومواقع التواصل الاجتماعي ميدانًا لخوض الحرب العربية/العربية، فباتت كل دولة تصفي حساباتها وتخوض معركتها بسلاح الصورة والسيناريوهات المكتوبة فمسلسل "أرض النفاق" مثلا ووجه بعاصفة من الانتقادات السياسية؛ فقط لأنّه ضمّ ضمن شخصيات المسلسل؛ الإعلامي المصري إبراهيم عيسى؛ المغضوب عليه من السعودية والممنوع ظهوره على شاشاتها.

وفي سوريا تدخلت إيران لمنع عرض مسلسل "هارون الرشيد" لاحتوائه مشاهد لما يسمى بـ "نكبة البرامكة"، العائلة الفارسية التي قلب لها "هارون الرشيد" ظهر المجن فنكّل بها بعد أن كانوا بطانته وأقرب وزرائه.

أيضًا لم يشذ مسلسل "المُهلّب بن أبي صفرة" عن القاعدة، حين اعتبرت عُمان أنّ هناك سطوًا قد تمّ على تاريخها وإرثها الحضاري، فاعترضت على المسلسل الذي أنتجته الإمارات؛ لكونه خرج بتاريخ مغاير - وفق المصادر العمانية – وردت بقوة أنّ اُلمهلّب عماني حتى النخاع؛ فقد ولد على أرض عُمانية لا أخرى، والتاريخ حتى وإن كان ليس إرثا لأحد "إلا أن الشخصيات تعود إلى أوطانها ولانتمائها، ولا بد أن تسمَّى الأشياء بمسمياتها وأن يُعطى الحق لأصحابه، فالاعتداء على الأموات ليس بشيء من شيم الكرام."

انضم كذلك مسلسل "العاصوف" إلى قائمة المسلسلات التي أثارت أزمات بين الدول العربية لاحتوائه مشهدًا لحرق صورة الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر، الأمر الذي أغضب بني وطنه باعتباره رمزًا لكل المصريين، مطالبين بحذف المشهد والتنبيه بعدم التعرّض للرموز العربية بالإساءة.

أما مسلسل "شير شات" الكوميدي السعودي فقد واجه عاصفة من ردود الفعل المغربية الغاضبة، فالمسلسل -بحسب المغردين المغاربة- يسيء للمرأة المغربية ويصوّر المغرب وكأنّه "سوق للنخاسة".

أزمة أخرى نشبت بين الجارتين السودان ومصر بسبب مسلسل "أبو عمر المصري" الذي رأت الأولى أنّه يقدم صورة سلبية عن السودان ويصوره حاضنة للإرهاب؛ الأمر الذي دعا الخرطوم لاستدعاء السفير المصري وتسليمه مذكرة احتجاج على ما ورد في الحلقات الأولى من المسلسل.

وربما يكون المسلسل الكوميدي الكويتي "بلوك غشمرة" أكثر المسلسلات التي وجدت حظها من النقد على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث جاء رد فعل السودانيين على الممثلين الكويتيين ووزارة إعلامهم ضاريا، وصبوا جام غضبهم على الممثل الكويتي حسن البلام لتصويره الشخصيّة السودانية بشكل ساخر؛ رأى كثيرون أنّ فيه نوعًا من الإساءة المتعمدة، فقد صوّر المسلسل السودانيين على أنّهم يحبذون الاسترخاء والنوم "ولا يجيدون نطق الحروف العربية، لا سيما نطق الأرقام، وكذلك الإكثار من كلمة "آآي" وتكرار كلمة "ذاتو" و"ذاتها"، ولم يكتفِ بذلك بل صوّر زواج فتاة سودانية وكأنّه بيع مقابل المال.

البلام اعتذر على مرأى من الجميع مبررًا المشاهد بأنّها مجرد محاكاة وتقليد من باب - الغشمرة- ليردّ عليه السودانيون بأنّ ما تمّ عرضه لا يمت للتمثيل بصلة بل وقاحة وأداء مهتز، ناصحين إيّاه بالتعلّم من الممثل السعودي ناصر القصبي الذي قلّد الشخصية واللهجة السودانية ببراعة دون أن يسيء إليها؛ مما يعني أنّ القصبي فنان ماهر يحترم فنّه بعكس أنصاف المواهب الأخرى.

لا زيادة على ما قاله السودانيون فقد أوفوا وكفّوا وردوا الصّاع صاعين؛ لكن ولأنّ بلادي وإن جارت على عزيزة وأهلي وإن ضنّوا عليّ كرام؛ هناك نقطة جوهرية أكثر خطورة مما تنبّه له رواد التواصل الذين ركّزوا على محاكاة اللهجة وسخافة المعروض؛ بل تستدعي تحريك إجراءات قانونية في مواجهة الممثلين الكويتيين، وهي الـ Black Face؛ فممثلو "بلوك غشمرة" في الحلقة المعنية صبغوا وجوههم باللون الأسود حتى يوحوا للمشاهد أنّهم سودانيون. علما بأنّ الـ Black Face كان شكلا من أشكال الماكياج المسرحي المستخدم بشكل أساسي من قبل المؤدين غير السود في أمريكا، وتمت مناهضته من قبل حركة الحقوق المدنية في الستينيات، وجرّمته المحاكم الأمريكية باعتباره نوعا من التمييز العرقي لمساهمته في انتشار القوالب النمطية العنصرية.

كان الواجب عليه حسن البلام الحاصل على درجة البكالوريوس من المعهد العالي للفنون المسرحية، والمفترض أن يكون مُلما بتاريخ المسرح بحكم التخصص؛ الانتباه لهذا الفخ، ولم يكن في حاجة لهكذا مكياج، إذ ليس بالضرورة أن نكون سودًا حتى نثبت أننا سودانيون والعكس كذلك؛ فالجنسية لا صلة لها بألوان الطيف، والسودان دولة قارة تتمازج فيها كل الألوان؛ الأبيض والأسود وحتى البني كذلك.. نسيج متفرد يحمل في دمائه الجينات الزنجيّة والعربيّة والنوبية والبربريّة والامازيغيّة حتى.. سمينا دولتنا بهذا اللون بل ونفاخر به وننظم فيه الأشعار والأغاني؛ لغلبته على الأرض والإنسان بأفريقيته التي تشكل نصيبا وافرا من جيناته، وقالها من قبل الشاعر السوداني محمد عبد الباري:

لأنّ اللونَ ذاكرتي

سأتلو فواتحَ سُمرتي في كل آن

تأرجح في حبال الشمس وجهي

- لينضج- لحظتين من الزمانِ

فصار يليق بالمعنى

وصارت وجوهُ الباهتينَ بلا معانٍ

من الأبنوسِ لوني

شعّ يوماً كما شعّ النبيذُ من الدنانِ

وأمي الأرضُ تشبهني كثيرًا

ملامحُها يراها من يراني

أنا حمأ البداية يوم هامت

بسمرة (آدم) حورُ الجنان

كانت بين أبي ذر الغفاري وبين بلال بن رباح محاورة، فعيّر الأول الثاني بسواد أمه، فشكاه بلال للرسول - صلى الله عليه وسلم - فلما جاء أبو ذر سأله الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم: أشتمت بلالاً وعيَّرته بسواد أمّه؟ قال: نعم، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "إنك امرؤ فيك جاهلية"، فألقى أبو ذر نفسه بالأرض، ثم وضع خده على التراب، وقال: والله لا أرفع خدي من التراب حتى يطأ بلال خدي بقدمه".

بعض الخدود من شِدة نعومتها لن تتحمل ذلك.. واللبيب بالإشارة يفهم.