للناس في وداع رمضان أحوال


محمد عبد العظيم العجمي – مصر


للناس في وداع رمضان أحوال ، كتلك التي  كانت لهم في صحبته، فمن أجاد الصحبة وأحسن المعاشرة ، وكابد أشواق الطاعات فأخلص الصيام ، وأطال القيام، أحس لوعة الفراق، كما قال معاذ رضي الله عنه في وداع الدنيا باكيا " اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا لغرس الأشجار ولا لجري الأنهار ، ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الليل، ومزاحمة العلماء بالركب " فهذا حري أن يقبل منه وأن يودعه رمضان آسفا لوداعه، ومن أساء الصحبة وأغفل الواجبات وأطال الرقاد وقصر في الصيام والقيام هان عليه الفراق وهان أمره على رمضان،  فلم يخرج منه إلا كما قال صلى الله عليه وسلم" ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ، ومن قيامه إلا النصب والتعب" فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين .
هكذا يمضي هذا الضيف الكريم الوفادة ، الكريم المعاشرة ، الكريم المفارقة ، اللطيف في حله وترحاله، يمضي وقد أخذ من حبات نفوسنا شيئا ، ومن أيام عمرنا جزءا لا يرجي أن يعود ـــ إلا أن يكون كمثله ــــ ، وحمل معه خبرنا إلى العليم الخبير،  وما أصدقه  من مبلغ ، وياخيبتها من بلاغة عنا إن لم يتغمدها ربنا بستره ويبدل من سيئاتنا حسنات، فيسأله الله وهو أعلم بحالنا عن أعمالنا فيه فيخبره بخبرنا ، فتكتب شهادته  وتؤخر حتى تعرض علينا يوم العرض ، فإما أن يكون لنا شفيعا ـــ وهذا رجاؤنا فيه وفي ربنا ـــ وإما أن يكون محاججا شاهدا علينا لا لنا، بما قصرنا وما أسأنا ، وما داخل أعمالنا من شوائب الإخلاص.
هذا السوق الذي انعقد أياماَ معدودات ، فما لبث أن انفض .. ربح فيه من ربح ، وخسر فيه من خسر، كانت تحفه النفحات من كل حدب وصوب، وتغمره البركات، وتشهده الطاعات تفتح أبوابها لكل مقبل ينهل على قدر همته ، ويحمل من الخير على قدر جهده ، تضاعف الحسنات إلى أضعاف كثيرة لا يعلمها إلا الله ، (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به )، والكل غاد فيه ورائح ، فمن منكب على القرآن وتلاوته ، أو القيام وحلاوته ، أوالذكر وطلاوته ، تنزل الملائكة كل ليلة بأمر ربها تحف الذاكرين الراكعين الساجدين القانتين ، وتبارك مجالسهم ومساجدهم ، وتستغفر لهم آناء الليل وأطراف النهار ، ويباهي الحق بهم الملائكة ، ويغدو خلوف فم الصائم أطيب عند الله من رائحة المسك كرامة لما أظمأ وأضحى في نهاره ، وتسمو أرواحنا تكاد تحلق بالأجساد ، وتغل شياطين الجن والنفس حين يضيق عليها بالجوع في مجرى الدم ، فتنقى من درنها النفوس ، وتزكى حتى تفلح ، وتصير مطمئنة راضية مرضية ، بعد أن كانت أمارة لوامة .
من المغبون في رمضان:
ومع كل هذا الخير العميم الوفير، نجد كثيرا من المغبونين المبعدين، قعدت هممهم حتى انفض السوق ، ونفق البيع والشراء ، وجاءوا ببضاعة مزجاة ، فلم يخرجوا من كل ذلك إلا بالإبعاد والخسران ، وقد كان ذلك بما قصروا في أعمالهم ، وما أسرفوا على أنفسهم ولا يظلم ربك أحدا ، وقد نودي كل منهم قبل رمضان " ياباغي الخير أقبل ، وياباغي الشر أقصر" ، فلم يقبل على الخير ولم يستطع أن يحجم نفسه الأمارة عن الشر ، ولم ير في رمضان إلا تعذيب النفس والإقلاع عن شهواتها التي لم يعتد مفارقتها وقد لازمها ولازمته زمنا حتى استوطنت فيه ، فكيف الفكاك منها ومن نفسه وهي بين جنبيه ، ولو عقد العزم لأخلص النية وشمر عن ساعد الجد ، واستعان بربه أن يعينه على الصيام والقيام ، وابتغى وجه خالقه فدحض شهوات نفسه ، وقال لها " رويدك فأقصرى أو فاحجمي ، فقد جد الجد وحمي العزم ، وشمر كل عن ساعد العمل ، ولابد أن أكون مع السابقين أو اللاحقين ".. إذا لوجد الله معينا توابا رحيما ، وليسر له ما نوى وعزم ، ولأمضى الشهر مع المخبتين المقبلين حتى صار من الفائزين.
إن هذا الشهر وما أتى به من أبواب الخير المفتحة الداعية لكل مقبل عليه ، المرغبة لكل ذي همة وذي رجاء في رحمة الله قد جاء مع بشائره وعطاياه التي ينثرها في كل يوم بين يدي المقبلين لا يحرم منهم أحد طالما ظلت نفسه في حال إقبال، لكنه قد جاء ليقيم الحجة على من لم يكن له منه نصيب ، فحقت عليه الشقاوة ، وصدقت فيه كلمة الإبعاد .. فأنى له أن يفوز بعد ذلك وقد خسر في هذا المضمار الذي لا يخسر فيه أحد إلا الخاسرون ، إذا كانت تجليات المولى تعالى على عباده ورحماته لا تنقطع آناء الليل وأطراف النهار ، ورحماته يشرئب لها كل عاص ومذنب ومعرض ومشاقق أراد أن يستغل مواسم الطاعة ودعوات الحق لعباده بالإقبال فألقى خلفه شقاقه وذنوبه وأسرع إلى ربه معجلا وقد رأى ما رأى من الفيوضات فتعرض لها رجاء أن تصيبه وهو يعلم أنه يلقى برحله على باب الكريم الذي لا يخيب من قصده ولا يضيع من رجاه ، فأسرع ولسان حاله يقول " وعجلت إليك رب لترضى " ، وأما الأخر فلم تجد معه كل هذه الرحمات والفيوضات ولم يستطع التفلت من شيطان نفسه ولا يتخلص من غلائل شهواته ولو استعان ـــ رغم ضعفه ـــ بربه مخلصا لأعانه على عدوه، وحال بينه وبينه ، حتى يخلصه له وحده .. ولكن " حقت كلمة العذاب " .
وداعا رمضان:
للصحبة الجميلة وقع في النفس ، وانشراح في الصدر ، وفرحة في القلب لا يعدلها شيء من عطايا الدنيا ، فكيف إذا كانت هذه الصحبة لكريم ظعين ، يصب فيه الخير صبا صبا ، وينثر فيه الرزق على الخلق من رب كريم ، وينشر فيه ديوان العلم والذكر في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيه اسمه ، وتعظم فيه الحرمات ، وتزكو فيه الطاعات ، وتوصل فيه الأحام ، وتجلى فيه القلوب من الأدران والأحقاد ، ويصير الجسد الواحد واحدا بعد أن كان مفرقا وكما أريد له في المنهج المنزل ، ويعود المؤمنون أخوة صفا ، ويتداعى الجسد لأوصاله المقطعة في كل البلدان بالدعاء والرجاء أن ينفث الله كربهم ، ويفك أسرهم ، ويحمل ضعيفهم ، ويغني عائلهم ، وتصير بقاع الأرض كأنما أصبحت حكراَ على هذه الشعيرة في مشارق الأرض ومغاربها للمسلمين، لا ترى ممن بقي على الدين الحق غيرهم ، ولا يصعد ذكر إلى السماء إلا من ديارهم ، ولا يباهى أهل السماء إلا بهم، وكأنما يقول الحق لهم هذا مصداق قولي لو شئتم " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون . إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين " الأنبياء . فهذا ملككم لو أردتم ، ولو أردتم فهذه عبادتكم وحالكم مع ربكم يكن لكم كما ترون, يزوي لكم الأرض من مشرقها إلى مغربها ، وما ذلك على الله بعزيز .
حكمة الشعائر:
إن لكل عبادة فوائد ومواعظ وعبر وحكمة ، ومن لم يعتبر ويتعظ فلن يخرج من رمضان إلا ذا حظ منقوص ، فإذا كان المسلم قد حقق على المستوى الفردي ما حقق وما وثق به عهده مع ربه ، فإن لهذه الشعيرة حكمة جمعية لا ينبغي أن ندعها خلف ظهورنا ـــ وهذا ما تحدثنا عنه في استقبال رمضان ــــ ، إن من لم يحمل هم هذه الأمة لا يحق له أن يكون منها، ولو أن يكون ذلك بجهد المقل وهو (الدعاء) لإخوانه بظهر الغيب ، وأن يهيئ الله لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهلها ويجعل دائرة السوء على أعدائها الذين يتريصون بها الدوائر، ولن يمكن لإقامة هذه الشعائر كما ينبغي إلا بالتمكين للأمة أن يكون لها الغلبة والسيادة في الأرض، ولن يمكن لها كذلك إلا بإقامة الشعائر كما أراد الله لها في النفس والواقع " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا فمن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون " النور .
وكما قيل : " مانزل بلاء إلا بمعصية ، وما رفع إلا بتوبة " ، وها نحن نرى إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها ولسان حالهم كما قال القائل :
أينما توجهت إلى الإسلام في بلد      تجده كالطير مقصوصا جناحاه
كم صرفتنا يد كنا نصرفها            وملكنا شعب كنا ملكناه
فهل حل هذا البلاء إلا بالإعراض عن دواعي التمكين " الذين آمنوا وعملوا الصالحات " ، وهل نخرت عظام الأمة إلا دابة الفرقة والإغفال عن حكمة الشعائر وإقامتها على قلب واحد ، لا كل قلب بمفرده .. إنه يجمعنا من مشرق الأرض إلى مغربها شعيرة الحج حتى لا تكاد تفرق بين مسلم المشرق ومسلم المغرب ، ويجمعنا كذلك شعيرة الصيام والقيام ، رب واحد ، قبلة واحدة دين واحد .. فأنى نفترق ، إلا أن نكون نؤدي الهيئة التعبدية دون إقامة الحكمة الجمعية منها ، وهي التداعي لكل عضو في أقطار الأرض من أهل الإسلام بما يهمه ويحزنه، وهذا هو عين الحكمة وأول لبنة في بناء التمكين .
ولا تزال هذه الأمة في بلاء لا يودي بها إلى الفناء أبدا ، طالما دوت بين جنباتها هذه الآيات البينات ، وصدحت بها الحناجر تحيي ليلها وتظمأ نهارها ، ولا ينقطع حبلها مع الله أبدا، وطالما ظلت تتعثر خطواتها ثم تحاول أن نقيمها ما استطاعت بفضل ماشرع لها خالقها من شعائر حتى يقيم بها الملة العوجاء ، وطالما أقيم هذا الدين في النفوس (شعائره) وعلى بساط الأرض من مشرقها لمغربها يقول للناس "إن رب هذه الأمة لن يتركها أبدا تهلك ، لكنها أعلم بما يقوم اعوجاجها من البلاء تارة ، وتحت ظلال الشعائر تارة أخرى حتى تعود لها السيادة في الأرض " وإن غدا لناظره قريب " .

 

 

تعليق عبر الفيس بوك