"وا عماناه"!

 

د. عبد الله باحجاج

نستعير عنوان مقالنا من مقال الدكتور سيف المعمري المنشور في جريدة الرؤية أمس، والمعنون باسم "تاريخنا التائه في مؤسسات التعليم"، فتلكم المفردة هي بمثابة صرخة الموتى من تحت القبور، تستنجد بنا للحفاظ على هويتها العمانية، في تصوير توفق المعمري فيه، فقد أعطى القضية أبعادا مختلفة، وغير نمطية، صورها لنا بتلك الصرخة التي لا يسمعها الثقلان؛ الإنس والجن، وهو بذلك يكسر الحاجز الفاصل- تصويرا- ويربطنا بعالم الأرواح لكي نعيش حالة مفترضة هي أقرب للحقيقة المتخيلة في عالم الأجساد.

وصلتنا من خلال تصويره الذهني "المتخيل" مجموعة صرخات، يمكن اختزالها في صرخات المكان والزمان، صرخات الوجود، وتغيبه عن تاريخه الممدود، فأينما تذهب داخل جغرافيتنا الحالية والتاريخية ستجد صرخات مُتعددة، أراضي تصرخ بعمانيتها التاريخية، سيرة علمائنا تصرخ بتجاهلها، قلعة تصرخ بإهمالها وقرب اندثارها، فلج يصرخ، فن يصرخ، ضريح يصرخ، مهن الأجداد تصرخ، موروثات تاريخية سويت بها الأرض ـ، وأقيم على أنقاضها ما لا يمت لها بأية صلة، ذهنية جيل كامل من الشباب تتشكل بقطيعة تامة عن تاريخ وطنها، فهي تصرخ بالجهل.. والزمان العماني يصرخ بحمولته التاريخية فيما وراء البحار.. فهناك من يتتبع خطانا التاريخية، ويُغير هويتها بالأموال، فهي كذلك تصرخ...إنها صرخات الأحياء والموتى.. صرخات الوطن في معاصرتها وفي هويتها التاريخية، وليس الموتى فحسب، فلماذا لم تسمع صرخاتها إلا بعد مزاعم هوية المهلب غير العُمانية؟ ولماذا لم يتداع لها إلا مؤسسات تعليمية فقط؟ هنا تكمن الإشكالية الكبرى، ومنها علينا تحمل المسؤولية، ونحملها داخلنا أولاً، فرغم وجود مؤسسات تعليمية وثقافية وإعلامية... منذ انطلاقة نهضتنا المباركة، إلا أنها لم تتمكن من الحفاظ على عمانية كل موروثاتنا المعنوية والمادية التاريخية سواء من حيث الهوية أو الوجود المادي لها في داخلنا أو ما وراء البحار، لذلك، فالقضية التي يطرحها المعمري، قضية دولة من الطراز الأول، ومعالجتها ينبغي أن تستنهض الدولة بأكملها، تجاوزا لردة الفعل، إلى صناعة فعل، كيف يمكن تحقيق ذلك؟ سنخصص له مقالاً خاصًا بمشيئة الله، وما خرجت بها الندوة الأخيرة مشكورة، هي مجرد توصيات تُدير معظمها القضية من منظور ردة الفعل الآنية، مثل اقتراحها إنشاء قسم خاص بالمهلب في المتاحف العُمانية، وإطلاق اسم المهلب على أحد المرافق العمومية، فهل عندما تتوالى المزاعم بهوية علم من أعلامنا، سنسارع إلى إنشاء أقسام لها، وتسمية شوارع أو مرافق عمومية بأسمائها؟ وهل إقامة صندوق وقف وطني لتمويل البحوث العلمية والأكاديمية خطوة ترتقي لمواجهة إستراتيجية دولة لسلب حقوقنا التاريخية؟

كما أن مفردة "الوقف" سالفة الذكر تثير الكثير من الملاحظات، فهي تفتح أبواب التبرع الطوعي، مما يعطي الانطباعات منذ الوهلة الأولى، بتحييد مواجهة الحكومة في هذه القضية، وجعلها أي القضية رهينة المبادرات الفردية والمؤسساتية الأهلية، وبالتالي، المسألة ستحكمها الأهواء والأمزجة، والظروف المالية للفرد والكيانات، ولو لا تصريح معالي مستشار جلالة السلطان للشؤون الثقافية الأخير، لتكرس مفهوم نأي الحكومة بنفسها عن قضية هي في الأساس قضية دولة، فالتصريح يُعبر عن الاستياء السياسي الرفيع، وذلك لما يمثله معاليه من وزن في البلاد.

وقد يتوقف مستقبل الموقف السياسي العماني على مضامين مسلسل المهلب الذي سيُبث على بعض القنوات الفضائية الإماراتية في شهر رمضان المبارك، وكل الاعتبارات، تدفع بالحكماء في الإمارات إلى وقف هذا المسلسل لما يحدثه قبل عرضه من تفاعلات محلية، تصاعدت وتصعدت إلى مستوى قوة تصريح المستشار، فرهاننا على الحكماء يعني حرصنا على التمسك بروابط الأخوة بين الأشقاء، لأنَّ استمرار الفعل، واتساعه وامتداده- كما حدث فعلاً- ينبغي التوقع مسبقا أن يخرج ردة الفعل العمانية عن نطاق حكمة الصمت الرسمية والشعبية، وتفجير احتقانات بين أشقاء هم أقرب للروح المشتركة في الجسد الواحد، وللمشاعر والعواطف التي تجمع بين أفراد الأسرة الواحدة.. فمن يكون له مصلحة في صناعة العداوة بين الإخوة؟ ولماذا الآن؟ وهل سيكون المهلب العماني هو آخر الخناجر التي تضرب نفسياتنا؟ شئنا أم أبينا، هم إخوة بكل المعايير، لن تنتفي هذه الصفة عنهم مهما آلمنا قوة فعلهم وتوابعه المتكررة، ومهما علمنا يقينًا بأن وراءه مؤسسات دولة وليس تصرفات فردية، سيظل الأخ أخا مهما طالت فترة انقطاع رحمه، ومهما أحدث ذلك شرخا في نفسياتنا العامة، ستبقى الشعوب، وستتغير الأنظمة، لذلك فالروابط بين الشعوب ثابتة ومقدسة.

فهل ستتدخل وزارة الخارجية العمانية في وقف هذا المسلسل؟ إذا لم يبادر الحكماء في الإمارات إلى وقف بث المسلسل، فعلى الدبلوماسية العمانية فعل ذلك فورا من منظور مصلحة الشعبين الشقيقين، وحفاظا على قدسية الشهر الفضيل، وهو شهر تتضاعف فيه الحسنات والسيئات، وتصفوا فيه القلوب والأنفس، فلا يعقل أن يثير هذا المسلسل الشقاق والعداوة بين الأشقاء في هذا الشهر الكريم، ومن المؤكد أنَّ هذا المسلسل سيحظى بمتابعة جماهيرية غير عادية بعد ضجته الإعلامية الكبيرة، وستشغل تفاصيله المواطنين في الشهر الفضيل، وسيكثر اللغط وتتصاعد الاحتقانات في شهر نرجو فيه من الله عز وجل العفو والغفران، ومن إحساسنا بروحانيات هذا الشهر في هذه الأيام المباركة، تنطلق دعوتنا للأشقاء، ويتعمق شعورنا بأخوتنا لهم رغم ما في نفوسنا من جروح وعتاب، سنتجاوزها ونطلق تلكم الدعوة لعل هذا الشهر الفضيل يكون شاهدا لنا لا علينا، ولعل ما حدث من استفزازات معنوية للموتى وسحب حقوق أصلية لبلادنا، يكون منطلقا لإعادة رسم علاقات تحكمها المصالح المشتركة المتبادلة في إطار العيش المشترك الجامع للكل بدلاً من فتح جبهات تستعدي الشعبين، وترجعهما للخلف، فمن سيكون له مصلحة في صناعة العداوة بين الأشقاء؟ فهل من آذان صاغية؟