سيناريو نتائج القرار الأمريكي تجاه إيران

عبيدلي العبيدلي

تقتضي ظروف رسم السياسات الإستراتيجية العربية، قراءة متأنية غير منفعلة لقرار الرئيس الأمريكي الانسحاب من الاتفاق النووي بين مجموعة (5+1). ويتطلب الأمر استقراء علميا لتداعياته المستقبلية التي بدأت تلوح طلائعها في مجموعة من الأحداث التي عرفتها المنطقة خلال اليومين التاليين لذلك الانسحاب، نظرا للتحولات الذي سيفرضها قرار الانسحاب على حاضر المنطقة ومستقبلها، والسيناريو الذي سيفرضه عليها.

يمكن تلمس ذلك على الصعد كافة، فعلى الصعيد السياسي، بدأ كل طرف في تشكيل جبهات سياسية تعينه على مواجهة الطرف الآخر. فبدأت طهران تلوح من جديد بالمحور الإيراني-الروسي-الصيني. من جانبها، شرعت واشنطن في محاولات تحييد الدول الأوروبية في أية ضغوطات سياسية يُمكن أن تحاول إيران استخدامها من أجل ممارسة أي شكل من أشكال الضغط على واشنطن.

أمَّا على الصعيد الاقتصادي، فلم تترَّدد واشنطن في الإفصاح عن خسائر شركاتها، وفي مقدمتها شركة البوينج لصناعة الطائرات، وبالمقابل بادرت طهران للتشدق بأنها على استعداد بالدخول في نفق فرض العقوبات الذي خبرته لفترات طويلة خلال العقود الأخيرة من القرن السابق، والسنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين، قبل توقيع الاتفاق النووي. كما بدأت في تحذير الشركات الأوروبية من مغبة الالتحاق بمعسكر فرض العقوبات.

وعلى الصعيد العسكري، سارعت إيران إلى إطلاق طائرات بدو طيار تابعة لها، وردت تل أبيب بقصف غير مسبوق للأراضي السورية، متذرعة، كما جاء على لسان الجيش الإسرائيلي: "إن إحدى طائراته العمودية الحربية أسقطت السبت طائرة بلا طيار إيرانية وهي تتسلل إلى إسرائيل، ونشرت صورا للعملية. وقالت إسرائيل إنها ردا على هذا الحادث شنت غارات جوية على مواقع سورية وإيرانية في سوريا. وتحطمت فيها مقاتلة إسرائيلية من نوع إف 16 بنيران الدفاعات الجوية السورية".

كل ذلك ينذر بحرب شرق أوسطية تشمل فيما تشمل إيران، والكيان الصهيوني، وربما تمتد ألسنتها أيضا كي تزج ببعض الدول العربية أيضا. وأن مواجهة عسكرية واسعة النطاق ستقوم بين إيران والكيان الصهيوني. لكن مثل هذه القراءة متسرعة وجزئية، وغير قادرة على رؤية الصورة بكاملها، وذلك للأسباب التالية:

≥ ليس من مصلحة الكيان الصهيوني الدخول في مواجهة عسكرية مع طهران، ليس بفضل العلاقات السرية غير المعلنة التي لا تزال قائمة بين البلدين، فحسب، وإنما أيضا لأن ذلك سيحول إيران من دولة معتدية تتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان العربية، إلى دولة معتدى عليها من قبل الكان الصهيوني، وهذا من شأنه تحويلها من معتد، إلى ضحية. وإذا ما تم ذلك، فمن غير المستبعد أن تجني إيران بعض التعاطف العربي، إن لم يكن الرسمي، فربما يكون على المستوى الشعبي.

≥ إن أيًّا من الكيان الصهيوني، بحكم الأزمات التي يعاني منها، والتنامي الملحوظ للمقاومة الفلسطينية، وإيران، وهي على أهبة الدخول في نفق العقوبات، غير قادرين على فتح جبهات عسكرية واسعة النطاق، تشكل نزيفا مستمرا يصعب التكهن بزمن وطرق وضع حد له. كما أن عواقبه وخيمة عليهما بغض النظر عن المنتصر أو المهزوم.

≥ إن الولايات المتحدة، في وضعها الراهن، غير مؤهلة لتوسيع نطاق تدخلها العسكري المباشر في حرب غير معروفة النهايات في منطقة ملتهبة ومتضاربة المصالح مثل الشرق الأوسط، خاصة وأن لموسكو مصالح حيوية فيها، وحلفاء استراتيجيين لا ترغب هذه الأخيرة في التنصل من العلاقات التي تربطها مع كل منهم على حدة، ومعهم جميعا ككتلة سياسية تجمعها مصالح آنية مشتركة.

≥ إن موسكو، وهي الطرف الدولي الثاني، إضافة للولايات المتحدة، الذي يملك حضورا عسكريا مباشرا في سوريا، لا تجد لديها الاستعداد في الوقت الحاضر أن تجازف بتورط عسكري، مهما كان نطاقه محدودا. فبالإضافة إلى مشاكلها الاقتصادية، وعلاقاتها غير الحميمة مع دول مثل تركيا، هناك واقعها الاقتصادي "غير الصحي"، بالإضافة إلى المنافسة التي تعاني منها في مناطق آسيوية من جار قوي ناهض هي بكين. كل ذلك يرغمها على إعادة النظر أكثر من مرة قبل الانزلاق والتورط في مواجهات عسكرية تفرضها عليها تحالفاتها الإقليمية الشرق أوسطية.

كل ذلك يشير إلى استبعاد احتمال اندلاع حرب واسعة النطاق في منطقة الشرق الأوسط في المستقبل المنظور، ومن ثم فالسيناريو الأكثر احتمالا خلال الفترة القصيرة القادمة، هو نوع من المناوشات العسكرية الضيقة النطاق المحسوبة العواقب، التي لا تقود إلى حسم عسكري واضح يميز بين منهزم ومنتصر، يقود معسكراها تل أبيب وطهران، تحقق هدفا رئيسا واحدا متعدد الأطراف والزوايا.

فمن جهة يضمن لإسرائيل حماية حدودها من أية عملية عسكرية، ويكتفي باحتفاظ طهران بصورتها الخارجية المموهة التي تضعها، شكليا، في مواجهة محتملة مع الكيان الصهيوني، ومن ثم لا يفقدها مكانتها التي تستميت من أجل استمرارها في المحافظة عليها، وهي أنها "رأس الحربة في أية مواجهة مع الكيان الصهيوني"، دون ان يزجها ذلك في معركة حاسمة مع ذلك الكيان، لكنه يمدها بما تريده من "وهج ثوري"، يخفي حقيقة علاقاتها مع الكيان الصهيوني.

ومن غير المستبعد، وفي سياق طهران تحقيقها لهذا الهدف، أن تضحي بحليفها الإستراتيجي في المنطقة وهو "حزب الله"، فلا تمانع من أن يتلقى ضربة، ليست بالضرورة موجعة على يد المؤسسة العسكرية الصهيونية، طالما أن هذه الضربة لا تكون قاتلة، وإنما تشذيبية، تقلص من حضوره في المعادلة الشرق أوسطية، لكنها لا تقضي على نفوذه في الجنوب اللبناني.

مثل هذا السيناريو يحقق لواشنطن هدفا إستراتيجيا أساسيا، وهو استمرار الأوضاع غير المستقرة في المنطقة، واندلاع صدامات عسكرية محدودة بين الحين والآخر، وهذا يضمن لها دخلا ماليا لمصانعها العسكرية، يشكل تعويضا عما ستعاني منه شركاتها، مثل البوينج، التي ستفقد بفضل قانون فرض العقوبات على إيران حصتها من تلك السوق.

يبقى سؤال إستراتيجي يُلح على المواطن العربي، وهو: كيف سيكون انعكاس ذلك على واقع الدول العربية؟ وما هي حصتها عندإعادة رسم خارطة منطقة الشرق الأوسط بعد تلك المناوشات العسكرية المحدودة الأفق، المتحكم في حجمها والطرق التي ستسلكها؟