"زرايب العبيد"

بذرة حب في فضاء اللون المُنمّط والهوية المتشظيّة

محمد علي العوض

لا تختزل رواية "زرايب العبيد" -للروائية الليبية نجوى بنت شتوان- نفسهَا في قصة حبٍّ غير متكافئة بين السيِّد محمد بن شتوان، وجاريته السوداء "تعويضة".

هي أكبر من ذاك وأعمق؛ فهي حكاية على لسان تاريخ العبودية في ليبيا منذ يمَّمت قوافل الليبيين العنيدة شطر إفريقيا، وجلبت العبيد من حوض النيجر وتشاد ومالي، ومن كل حدب وجدوا فيه إنسانا أسود جائعا مدقعا، ضحية لحروب القبائل وجشع السلاطين.. نصلٌ يطعن في الذات الإنسانية والروح، ويجعل السماء والنجوم تختفي رويدا رويدا حين يطأ "التاجر الزوي الأسود" الطفلة ذات الخمس سنوات في بربرية عجيبة تصلُح عنوانا لتلك الحقبة.. قصة أطفال مشوا من حوض نهر النيجر إلى جبال تبيستي في ليبيا ليكونوا طعامًا سائغا للغربان، إلى أن يبتسم الحظ للناجين بالوصول إلى سوق النخاسة وحقول السادة المشترين.

رواية "زرائب العبيد" -الحائزة على جائزة الرواية العربية في "الخرطوم عاصمة للثقافة العربية للعام 2005"، والتي وصلت للقائمة القصيرة لجائزة "البوكر" للعام 2017- برغم أنها تُسلط الضوء على حقبة عجفاء من تاريخ ليبيا، سامت فيها العبودية السود خسفا وتنكيلا، إلا أنَّها بالطبع اختلفتْ عن أسلوب السرد التاريخي، وتظل أقرب إلى ما يسميه نوثروب فراي بـ"القص الخالد"، المُعبِّر عن روح المجتمعات البشرية، بما تملكه من طقوس وأساطير وحكايات وأحداث.

الرواية تطرُق موضوعا اجتماعيا تاريخيا ببهاء فني وتوازن تقني زاوج بين الأضداد في براعة، حقق قدرا كبيرا من التوتر والانسجام في آنٍ واحد. رسمت بنت شتوان فيها تمثلات المكان، ومن ثم أقامت فوقه حركة الزمان بتشكيلات ثنائية مضبوطة في تصاعدها الدرامي؛ فالبحر يقابل الصحراء على سطح الفضاء الروائي، وتقابل المدينة زرائب العبيد.. ينقسم المجتمع والمشاعر ما بين: الحريّة والعبوديّة، مثلي ومثليّة، حب وعداوة، صلة وحرمان، يأس ورجاء، نظافة بنغازي وقذراتها، جفاؤها وحنانها، نواقيسها وقبابها، هي باختصار لوحة تستمد حيويتها من إبراز هذه المفارقات.

العنوان "زرايب العبيد" يؤدِّي وظيفة بصرية وأيقونية وعتبة أولى كاشفة لفحوى الخطاب، ويبرز مباشِرا إمعانًا في الإيلام، والتذكير بالصورة الصادمة الواقعية، والمأساة التي تقيم جسرًا مكانيًّا وتشبيهيًّا من خلال محمول لفظ "الزرائب" بين الحيوانات والعبيد؛ فكلاهما منزوع الإرادة، يباع ويشترى.. يقتل ويجلد دون أدنى إنسانيّة؛ ولعلَّ الكاتبة أرادت من المباشرة الصادمة هذه أن تشدَّ انتباه القارئ، واستثارة شعوره من أول وهلة؛ بُغيّة التأسيس لذم الرق والاستعباد، وترسيخ الوعي بإشكالياته المتفاقمة، كقضيةٍ محوريةٍ تستهدف بنية النص.

تقومُ هندسة الرواية على بنية السرد الزمني؛ حيث يبدأ حاضر الحكاية بتعطيل زمنية السرد عبر تقنية المشهد ووصف الشارع الذي تسكن فيه "عتيقة بنت تعويضة" مع زوجها وطفليها، قبل أن يتصاعد الإيقاع قليلا بحوار يجمع بينها وابن عمتها علي بن شتوان، القادم من عائلة تتنكر لها شكلا ومضمونا؛ لتسليمها وثيقة النسب التي تُثبت أن والدها من رجال مصراتة الحُمر كما الألمان. مجيء علي ينكأ الجراح وينبش الحكايات بعد فوات مواسمها، ويعيد للروح قلق الهُوية المتجاذَبة بين لونين: جلد أسمر وعينان لوزيتان، وحزن ليس له انتماء إلى دم محدد. ويفتح الأبواب المؤجلة لتنتقي عتيقة موضعها من الأحاسيس والمكان والزمان؛ فتختار لها الكاتبة الرجوع إلى الماضي عبر تقنية الاسترجاع "الفلاش باك"، والتوغل في فضاء "الزمن النفسي"؛ لتتناسل الحكايات، وتبدأ عملية الاسترجاع من على كرسي في سوق الجريد بدكان "على بن شتوان"، قبل أن تعود بطريقة دائرية مرة أخرى إلى الحاضر "الزمن الطبيعي"، وتنتهي برفقة ذات الشخصية، في مشهد أبسط ما يوصف به أنّه ميلودرامي.

وتكمُن براعة الكاتبة في "التلاعب الزمني" -إحدى تقنيات الرواية المعاصرة- وتأطير الأحداث وتكسير مسار الزمن بين الزمن "الطبيعي" وبين ما يطلق عليه "مندلاو" "الزمن النفسي"، الذي تدور فيه أحداث الذكريات بصورة دائرية، حتى تصبح النهاية هي البداية. لاسيما وأنَّ الزمن النفسي المتمثَّل في تقنية الاسترجاع يُناسب الروايات السياسية والتاريخية؛ فعتيقة تحكي عن تاريخ أسود كانت شاهدا عليه وأحد فاعليه؛ وتقابلنا تقنيات أخرى ابتكرتها كالاستباق وغيره.

السارد في رواية "زرايب العبيد" عليم بكل شيء.. عالم بحاجة علي بن شتوان لإعادة ترتيب كلماته مرة أخرى حتى لا تغلق "عتيقة" الباب في وجهه، ويعرف جيدا وقع لفظة "خادمة" عليها؛ لذا يتجنبها حتى لا يجرح شعورها.

عمدتْ الكاتبة بذكاء إلى استخدام تقنية "الإرهاص" لتخط إشارات عابرة تمهد فيها لتنامي الأحداث وتأثيث العمل الروائي قبل نضوج السرد وانفتاحه على حكايات وشخوص أخرى؛ ففي الصفحة التاسعة يرد اسم تعويضة عرضا قبل أن تتسمى بـ"صبرية"، وتكون الشخصيّة المحورية المتحكمة في مفاصل السرد والممسكة بخيوط كل الحكايا بدءًا من الصفحة 30، وكذلك يوسف الوارد اسمه في (ص:14)، يتعاظم دوره أكثر بعد (ص:128)، وأيضا "مفتاح" الذي نلمح اسمه عابرا في (ص:17) قبل أن يفرد له فصل ومساحة خاصة بدءا من (ص:104).

اعتقد أنَّ الكاتبة لم تسلم من الوقوع في فخ ثنائيَّة اللونين القائمة على خيريّة "العبيد" وشرية "السادة"، وحين أرادت التخفيف من حدة الاستقطاب بتصوير بعض وجوه الخير في مجتمع البيض كعلي بن شتوان وأمّه وتصوير وجوه الشر في مجتمع العبيد كأمجاور والشوشانة السحاقية في الماخور، انزلقت رجلاها في وحل الثنائية أكثر، وألبست الشخصيَّات بغير لبوسها؛ لأنَّها شخصيات "سلبية" لا تملك إراداتها بسبب الظرف المكاني والدوافع؛ وبالتالي أصبح الخير والشر في هذه الشخصيات رهينين بمتغير؛ فعلي بن شتوان قربه من خاله ويتمه وعيش أمه الأرملة في بيت والدها جعلته خيّرا. أمّا "الشوشانة"، فهي عبدالمأمور في الماخور، وكذلك أمجاور حين يستعرض "شيئه" لعتيقة؛ فهو مسلوب الإرادة أمام سمرة فاتحة وعينان لوزيتان بشعر ناعم.. هُوية غريبة لا تُشبه سحنة زرائب العبيد تستثير غريزته.

في "زرايب العبيد" تتباين صيغة السرد، وتعني كما يقول تزفتان تودوروف "الكيفية التي يعرض لنا بها السارد القصة". وتنقسم في الرواية إلى نوعين"

- صيغة "محكي الأقوال"؛ أي الحكي على لسان الشخصيات، وقد نوَّعتها الكاتبة إلى أساليب أخرى؛ مثل: "الخطاب المنقول" كأكبر حيز في الرواية، وأفسحت فيه الساردة المجال للشخصيات لتعبر عن نفسها بطريقة مباشرة؛ إما عن طريق الحوار، أو النقل الحرفي المباشر لكلام الشخصيات. وهناك أيضا خطاب "مُسرد" أي مرويٍّ، أوردت فيه الساردة أفكار الشخصيات لا أقوالها كحديث عتيقة عن البنت السودانية "قطعنا لها وعدا بإحضار شيء فيما بعد"، إضافة إلى خطاب آخر "محول" غير مباشر.

- صيغة حكاية الأحداث أو ما يسميه "جنيت" بـ"محكي الأحداث"، ويكون فيه الحكي على لسان السارد/الراوي، وتتفرع هذه الصيغة إلى صيغ أخرى منها الوصف الذي استهلت به أول سطور الرواية، وملفوظ الخطاب؛ أي خطابات السارد بأشكاله المتعددة كالفلسفي (كان ميلاد محمد حياة أخرى لي، أضاف معنى لوجودي-ص:29)، أو الديني المبسّط (كلنا سنموت. الموت قريب جدا منا، في أي لحظة يأتي-ص:22)، وكذلك التأملي على شاكلة (بعض التدابير تناسب أقدارًا خفية-ص:215).

حاولتْ الراوية المزاوجة بين هذه الصيغ جميعها؛ فظهرت طريقة العرض والحكي كتشكيلٍ إبداعيٍّ جميل.