قراءات في الخطاب السامي (7)

الاعتدال الإنساني

 

سلطان بن خميس الخروصي

تذكر كتب التاريخ أنَّ التطرف كان أحد العوامل الرئيسية في اضمحلال الدول وتبعثر أمجادها وفناء شعوبها، فأيّنما حلَّ التطرف سواء كان دينياً أو قبلياً أو عرقياً أو فكرياً يحل الاندثار والدمار؛ ففي القرون الوسطى كانت أوروبا تعيش ويلات التطرف الكاثوليكي والأرثوذكسي عبر فوهة محاكم التفتيش والتي كانت ترى أنها الممثل الأوحد للرّب، فكانت مشانق الفقراء والبسطاء والمعدمين والمُخالفين تمتد بين الطرقات والأزقّة، كما كان الفكر الضّحل السائد دون إحكام العقل بل كانت حرية الرأي من عظيم المُحرّمات؛ فعاشت أوروبا في ظلمات بعضها فوق بعض، وفي التاريخ الإسلامي وحينما كان العهد النبوي الشريف يمتاز بالبساطة والابتعاد عن الغلوّ والتطرف كان الناس سواسية كأسنان المشط، وما أن دبّت دماء الخلاف والاختلاف بين أوردة من يعبدون إلهًا واحدا، وبدأت سماجة الفكر والتطرف العقدي والرأي والفقه تطفو على الساحة؛ شهد العالم مذابح ما أنزل الله بها من سلطان، وعلى ضوئها خسر المسلمون أمصارا كثيرة في مشارق الأرض ومغاربها، وفي العصر الحديث وحينما كان الفوهرر- لقب أدولف هتلر- يجول ويصول في أوروبا وبعض مجاهيل العالم بالنار والحديد مدفوعًا بتطرف يرى أن العرق الألماني الأبيض هم المخولون بأن يرثوا الأرض ومن عليها لتنتهي الحرب العالمية الأولى بعد أربع سنوات عجاف وهي تحمل فاتورة مثقلة بأكثر من تسعة ملايين قتيل وملايين الجرحى وأزمات وصدمات اقتصادية ونفسية واجتماعية وكُبّلت ألمانيا بقيود لا تزال تُعاني منها حتى اللحظة، إذن هذا شذر من مذر كبير يرويه التاريخ في المسيرة الإنسانية حينما يغلب التطرف والغلو ويعدم الاعتدال والتسامح.

وفي سلطنة عُمان حيث جمال الروح وبهاء التاريخ وصفاء القلوب، هذا القطر العربي الأصيل حيث أخرج لنا مازن بن غضوبة حينما آمن طوعاً بدين محمد الشريف ولم يكبل الأغلال لقومه للدخول في الدين الجديد وترك الولاء والسجود لصنمهم الأعظم "باجر"، وأخرج لنا أحمد بن ماجد الذي صال بحار العالم وجال فيها طولاً وعرضًا؛ فيضرب لنا مثلا عن عظمة إنسان عمان الطاهرة والمثابرة، وأخرج لنا المهلب بن أبي صفرة القائد العربي العُماني الشهم والذي دافع عن وطنه ودينه وعرضه ليضرب لنا موعدا خالدا مع التاريخ فتتوارثه الأجيال حقبًا متوالية وإن حاول البعض تشويه صورته أو سرقة مجده العماني لكن وطء قدميه وصليل سيفه وصهيل خيله تنبع من ثرى وثريّا عمانيته الخالدة أبد الدهر، هذا القطر الذي أخرج إمبراطورية آسيوفريقية – أفريقيا وآسيا – بلا سلاح ولا قتال حيث تعاقب سلاطينه العظماء في بناء مؤسسات الدولة والحضارة في عمان العربية الشرقية الآسيوية وتراب زنجبار الأفريقية الجنوب شرقية، وعبق مجد قصر المتوني والعجائب تحكي عن نفسها.

من يغور في تفاصيل التاريخ العُماني منذ بزوغ فجر التدوين وحتى اللحظة يجد أنَّ الثوابت والقواعد التي يقوم عليها الفكر السياسي القيادي والشعبي مبنيٌّ على احترام الرأي وحرية الفكر – ما لم يتسبب في أذى للآخرين – ونبذ العنف والتطرف والغلو ورفض استثمار الحراك الشعبي في بعض المراحل لتحقيق مصالح شخصية أو فئوية قذرة ضد الوطن والمواطن، ويتجلى كل ذلك في الخطابات المتوالية لعاهل البلاد – أعزّه الله- في مُناسبات كثيرة وهو يُخاطب الشعب والعالم أن القيادة السياسية وشعبها العظيم يدركون ماهية التحزب والتطرف من خلال نماذج عالمية مؤلمة، فنجد أن الخطابات السامية سواء كانت في مجلس عمان أو خطابات الأعياد الوطنية أو حتى في الجولات السامية – البرلمان المتنقل- هناك اهتمام وتركيز على رفض هذه السلوكيات الرجعية التي لو تغلغلت في مفاصل المجتمع لجعلت من عمان الطاهرة نموذجاً مؤلماً كما هو الحال في دول عربية تعاني من ويلات ضحالة الفكر وغياب ثقافة الهُوية والمواطنة، ففي خطابه السامي بالعيد الوطني الرابع والعشرين المجيد بولاية نزوى يخاطب الشعب قائلاً: "إنَّ التطرف مهما كانت مسمياته، والتعصب مهما كانت أشكاله، والتحزّب مهما كانت دوافعه ومنطلقاته، نباتات كريهة سامة ترفضها التربة العُمانية الطيبة التي لا تنبت إلا طيبًا، ولا تقبل أبداً أن تلقى فيها بذور الفرقة والشقاق" وفي ذلك بيان واضح ألا مكان لمن يبيعون الدين والفكر والاعتدال بثمن بخس، وأن سماء عمان ستلتهم الخفافيش وأرضها ستبتلع الأقزام لتظل عظيمة بمجدها التليد وكينونها المجيد، ويتجدد الخطاب مرة أخرى وهو يستمد ثوابته من الإرث الحضاري الضارب في القدم فنجده يعتز ويعضّ بالنواجذ على حرية الرأي وعدم مصادرة الفكر – ما لم يتجاوز حدود الآخرين – حيث ينبري الخطاب السامي بمجلس عمان ضمن الانعقاد السنوي للعام 2011 قائلا:

"لقد كفلت قوانين الدولة وأنظمتها لكل عماني التعبير عن رأيه والمشاركة بأفكاره البناءة في تعزيز مسيرة التطور التي تشهدها البلاد في شتى الميادين، ونحن نؤمن دائماً بأهمية تعدد الآراء والأفكار وعدم مصادرة الفكر؛ لأن في ذلك دليل على قوة المجتمع وعلى قدرته على الاستفادة من هذه الآراء والأفكار بما يخدم تطلعاته إلى مستقبل أفضل وحياة أسعد وأجمل، غير أن حرية التعبير لا تعني بحال من الأحوال قيام أي طرف باحتكار الرأي ومصادرة حرية الآخرين في التعبير عن آرائهم؛ فذلك ليس من الديمقراطية ولا الشرع في شيء، ومواكبة العصر لا تعني فرض أي أفكار على الآخرين".

حفظ الله عُمان وطناً وسلطاناً وشعباً.

Sultan.alkharusi@gmail.com