ما قبل التقاعد

طالب المقبالي

عندما يقترب الموظف من سن التقاعد تتضارب الأفكار في مخيلته كي يتهيأ لليوم الذي يسلّم فيه عهدته في العمل ويودع الزملاء الذي قضى معهم فترة من الزمن تصل إلى أربعة عقود أحياناً، خاصة للموظفين القدامى الذين التحقوا بالعمل في سن مبكرة.

فبمجرد التفكير في هذا الأمر يصبح الموظف أكثر انشغالاً بالتفكير في المرحلة القادمة.

وفي هذا الإطار كتبت مقالين سابقين الأول بعنوان "وماذا بعد التقاعد" تطرقت فيه إلى المرحلة الانتقالية في حياة الموظف، من عالم القيود والرسميات والأوامر، إلى عالم جديد يتطلب تخطيطا مسبقا، وتهيئة لمرحلة جديدة يكتنفها الغموض، وتتبادر إلى الذهن هواجس يصاحبها القلق والخوف من العالم الجديد، وقد ذكرت في مقالي أنّه يجب على الإنسان أن يخطط مسبقا ليعيش شيخوخة نشطة مليئة بالأحداث والفعاليات، بعيدة عن التكلف والرسميات.

لقد كتبت هذا وأنا ما زالت أمامي بضع سنوات قبل التقاعد، لكنني كنت أفكر في الأمر كثيراً، وقد وضعت عدة خطط لمستقبل آمن مليء بالعمل والجد والنشاط، ووضعت لنفسي خارطة طريق تؤمن لي مستقبل المرحلة القادمة.

وذات يوم فاجأت أسرتي برسالة أستشيرهم فيها عن قرار سوف أتخذه بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود من العمل.

وكانت جميع الردود مؤيدة للقرار، ومن بين تلك الردود اخترت عنواناً لمقالي الثاني في هذا الشأن "اعقلها وتوكل".

وبالفعل تقدّمت رسمياً بطلب التقاعد بعد أن جلست مع صديقين متقاعدين تقاعداً مبكراً لأستمع إلى آرائهما حول التجربة، وكيفية قضاء أوقاتهما الجديدة.

إلا أن توجهي غير توجههم، ومخططاتي تختلف عن مخططاتهما، فلو قررت حذو حذوهما لاخترت العمل وخدمة مجتمعي عوضاً عن التجمع الصباحي في سبلة المتقاعدين التي أنشأوها لقتل الوقت وضياعه انتظاراً للموت والرحيل من هذه الحياة.

فبعد أقل من شهر من تقديم طلب التقاعد تراجعت عن طلبي لأستمر في خدمة وطني ومجتمعي إلى أن أصل إلى سن التقاعد الطبيعي، حينها أبدأ في تنفيذ الخطط التي أعددتها سابقاً لهذه المرحلة، حتى لا أحذو حذو أصدقائي، فللوقت عندي قيمة كبرى واستغلاله يجب أن يكون فيما هو مفيد وصالح لي ولمجتمعي.

وقبل أيام التقيت أحد أصدقائي المتقاعدين في السوق وقت الصباح، فقلت له جميل أن تأتي السوق في هذا الوقت والناس منشغلون في أعمالهم، فتتبضع على راحتك، واختتمت كلامي بالقول: سألحق بكم قريباً، فضحك وقال "راحت عليك، وكأنه يعني بأن الفرصة ذهبت، وأنه الآن في وضع الأفضل، وأن تراجعي عن قرار التقاعد كان قرارا غير صائب، في حين أراه أكثر من صائب خاصة وأنّ العمل بأمس الحاجة إلى خبرات قدامى الموظفين، ففي الغرب يعتبر كبار السن مرجعاً هاماً في كسب الخبرات، لكن في مجتمعنا يعتبر البعض قدامى الموظفين يشكلون عبئاً على قطاع العمل، ويعتبرونهم حجر عثرة أمام توظيف الشباب، وكأن الكبار لا حق لهم في العيش ولا في العمل، في حين أنّ القوانين المحلية والدولية تكفل لهم حق العمل، وأنهم ثروة لا غنى عنها.

ولا ننكر أنّ هناك من بين الموظفين القدامى من لا يمتلكون مهارات، وتعتبر خبراتهم مجرد خبرة سنة مكررة في عدد سنوات العمل، لأنّ فكرهم محدود ومهاراتهم مقتصرة على أداء عمل واحد طوال سنين عملهم.

muqbali@mail.com