لا للعصبية القبلية

حميد السعيدي

القبيلة ركنٌ من أركان المجتمع الأساسية، ولها دور كبير في تماسكه ووحدته، وكان له دور في الدفاع والزود عن الوطن، وهي مفخرة العرب ومنبعهم وأصلهم، وعند الحديث عن القبائل في عمان؛ فقد كانت لها تأثير على مدى العصور ما بين تأثيرها في صناعة الحضارة والتقدم، فقد كانت رمزاً للعمل الوطني والروح الجماعية، وفي الفترات التي تعرض فيها الوطن للاحتلال شكلت القبائل وتحالفاتها عنصراً مهما في طرد المحتلين، كما لعبت دوراً أساسيا في معالجة العديد من القضايا التي كانت ترتبط بالوحدة الوطنية.

إلا أن في بعض فترات التاريخ العماني كانت القبيلة سببا في ضعف الدولة وانهيارها عندما سادت التعصبات القبلية والنعرات الجاهلية، فانقسم المجتمع العماني إلى حزبين تقودهما قبيلة الغافرية، وحزب آخر تقوده قبيلة الهنائية، وهذه الأحزاب تكونت نتيجة الخلاف السياسي على نظام الحكم في تلك الفترة، ووجود قيادات غايتها التعصب والجهل والابتعاد عن مصلحة الأمة والوطن، فتغلبت العصبية على الوحدة الوطنية، وسادت الفوضى والصراعات الداخلية بين أبناء الشعب الواحد، وضعفت الجبهة الخارجية فأصبح الوطن محل الاطماع الأجنبية وتعرض للغزو والاحتلال من جهات مختلفة، وفقدت الدولة مساحات كبيرة من أراضيها، في حين ظل الداخل ملتزما بالتعصب القبلي، الذي كان عاملا في ضياع وانقسام الشعب إلى أحزاب تتصارع من أجل التعصب الفكري والقبلي.

واليوم.. نحن نعيش دولة المؤسسات والقانون، وهي ذات نظام أساسي يقوم على العدل والمساواة، ويعمل على تنظيم العلاقات بين الأفراد بما يحقق التضامن الوطن؛ لذا فإن جميع المواطنين يقدمون الانتماء والولاء للوطن؛ حيث عمل جلالة السلطان قابوس بن سعيد -حفظه الله ورعاه- على معالجة التعصبات القبلية، فأحدث اندماجا وسهرا لفكر القبيلة؛ بحيث تندمج مع الدولة الحديثة، دولة المؤسسات والقانون والتي تقوم على النظام والعدل، وتعمل على قيادة المواطنين وفقا لأهداف وطنية تحقق الرفعة والمكانة للوطن، وتوجه الجميع نحو العمل والانتماء الوطني، وتغرس فيها الروح العالية والأمانة والإخلاص لعمان دون غيرها؛ فهي تحارب الاستبداد والسيطرة والتخلف والتعصب، وتعمل على استغلال الموارد الطبيعية والقوى البشرية والمهارات العقلية على تطوير البلد وصناعة العهد الحديث، كما تعمل على تحديد الأنظمة والمسؤوليات، وتصيغ الأطر العامة للعمل الوطني؛ بحيث تخلق المجتمع المدني القادر على القيام بواجباته والمحافظة على سلامة وأمن الوطن.

واليوم.. الذي تعيش فيه السلطنة أزهى أيام نهضتها العظيمة، وبعدما أصبح التعليم أحد منجزات هذا الوطن، ولم يبقَ في الوطن أحد إلا وحصل على حقه من التعليم والثقافة المعرفية التي تساعده على التعامل مع المواقف والأزمات، وإدارة مشكلاته بالمنهجية المناسبة، نجد هناك من ينادي بنعرات الجاهلية والعصبية القبلية، ويعمل على إدارة تجمعات قبلية رجعية، تسهم في تحقيق الشقاق والبغضاء بين أفراد المجتمع العماني، ونحن في غنى عن مثل هذه التصرفات التي تصدر من أفراد لا يدركون حقا سيئات الأفعال التي يقومون بها، بل يعمدون لمخالفة الأنظمة والقوانين، والضرب بها عرض الحائط، وكأننا نعيش في دولة بلا قانون أو نظام.

في ذات الوقت، تشهد هذه التجمعات حضورا كبيرا مما يدل على وجود فجوة كبيرة في الفهم الحقيقي للمواطنة؛ فقد أصبح نداء القبيلة أقوى من نداء الوطن، فقد عمد هؤلاء على مخالفة النظام، وهنا تكمن خطورة مثل هذه التجمعات التي أصبحت جزءا من الماضي، والوطن في غنى عن هذه التصرفات التي لا تصدر عن مواطنين مسؤولين عن تصرفاتهم وسلوكياتهم، والأغرب عندما يعتلي هذه النعرات هم من أصحاب الثقافة والمعرفة إذا كانوا حقا مثقفين أو متلبسين بها.

لقد صُدم الشارع العماني بمثل هذه التصرفات التي تتناقض مع دولة المؤسسات والقانون، وتتناقض مع الوحدة الوطنية والعمل من أجل عمان، بل هي نوع من التحدي للقانون ويتناقض مع المواطنة المسؤولة التي يشعر فيها الموطن بدوره الحقيقي في الحفاظ على أمن ومدخرات الوطن ومنجزاته. أما العمل تحت قيادة القبيلة، فهو تعصب نرفضه اليوم، ولا يمكن أن يمرر هذا التعصب القبلي دون أن يجد الحلول التي تمنع تكرار حدوثه، هذا الأمر تعدَّى الواقع الحقيقي إلى العالم الافتراضي؛ حيث تعمد الكثير من القبائل العمانية عبر شبكات التواصل الاجتماعي على تنظيم تجمعات قبلية، تصنع فيها نوع من التفرقة وتقوي التعصب القبلي، مما يسهم في سيادة البغضاء والتفرقة بين أبناء الوطن الواحد.

من الغريب حقا أن نكون في هذه العهد الحديث ونحن نعاني من أمراض الجاهلية التي ترسخت في أذهان الكثير من شبابنا ومثقفينا الذي ينادون بمثل هذه التجمعات القبلية، بل يعمد بعض الشخصيات على قيادة هذه التجمعات عبر الفضاء الإلكتروني، للاستفادة منها فيما يخالف النظام والقانون.

وهنا.. أؤكد على قول جلالة السلطان قابوس بن سعيد، الذي أكد على دور المواطن في حراسة أمن الوطن: "على كل مواطن أن يكون حارسا أمينا على مكتسبات الوطن ومنجزاته التي لم تتحقق كما نعلم جميعا إلا بدماء الشهداء، وجهد العاملين الأوفياء، وألا يسمح للأفكار الدخيلة التي تتستر تحت شعارات براقة عديدة، أن تهدد أمن بلده واستقراره، وأن يحذر ويحذر من هذه الأفكار التي تهدف لزعزعة كيان الأمة".. هذا التوجيه السامي الذي جاء في خطاب جلالته عام 1994م للمواطن العماني أن يعي الدور الحقيقي الذي ينبغي أن يقوم به في العمل الوطني والعمل على الحفاظ على الأمن والوحدة الوطنية، وعدم الانجرار خلف التعصبات والانقسامات القبلية التي قد تسبب شرخا يسمح للآخرين للاستفادة منها في تحقيق مأرب قد تضر كثيرا بمصلحة الوطن، فنحن اليوم علينا أن نقدم العهد والوفاء بأن نكون مخلصين لعُمان، وأن نعمل على رفعة مكانتها بين الأمم.