مشروع النهضة العمانية



عبد الله العجمي

منذ بزوغ فجر النهضة الحديثة في سلطنة عُمان في الثالث والعشرين من يوليو 1970م، والتي حمل شعلتها السلطان قابوس بن سعيد -حفظه الله ورعاه-، ومشاريع التنمية لا تزال مستمرة في رسم ملامح هذه الدولة التي نهضت من ركامٍ لتغادره إلى أفقٍ جديد، برغم أنَّ حامل هذه الشعلة وجد نفسه أمام مسيرة ليست باليسيرة، مسيرة صعبة ومُعقّدة للغاية، حيث ركام الحقَب الماضية وآثارها الماثلة أمامه، بمقابل الجيل الذي كان يُعاصره ويرى في فِكر هذا القائد ومنهاجه الخلاص من قيود الماضي، ويرى في تلك الشعلة التي كان يحملها بصيص الأمل في مشروع يحييهم ويأخذ بيدهم نحو طريق التقدّم والانطلاق نحو العالمية، وقد انتهج السلطان قابوس خلال العقود الخمسة الماضية مشاريع تنموية مبتكرة، وزوايا جعلته يشخّص مكامن الخلل وتحديد طرق سدّها، ليضيف إلى المشروع التجديدي للدولة العمانية الحديثة إضافة نوعية بعدما انتهج منهجاً شبيهاً بالمنهج الابستمولوجي في التشخيص والعلاج لمكامن الخلل في الشخصية العمانية آنذاك، ويصل بها إلى ما وصلت إليه من رقيّ وتقدّم في الوقت الراهن، فأصبحت الهويّة العُمانية محطّ احترام وتقدير من كافة شعوب العالم دون استثناء.
ولعلّ أصعب ما مرّ بالنهضة من مراحل هي مرحلة بناء هذه الهويّة الفريدة، والكلّ يعلم أنَّ رسم أي هويّة جديدة تحدّه الكثير من العقبات كــ "عقلية المؤامرة" التي تكاد تكون سائدة مقابل أي حركة تجديدية لأي مجتمع بشريّ، مع وسم أي تنوير جديد بأجندات استعمارية تريد فرض خططها، وبالرغم من الفترة القصيرة التي استغرقها السلطان قابوس لنقل مشروعه التجديدي من النظرية إلى التطبيق، إلا أنَّ الحضور الطاغي لأيديولوجيات أخرى تحيط بالسلطنة من كل الجهات، أبقت بعض المعوّقات والهواجس التي تحاول التشكيك في أهداف هذا المشروع، لكنه ومع مرور الزّمن قدّم نجاحاً منقطع النظير حيث وازن وبعقلانية فذّة بين المحافظة على الهويّة العمانية ومواكبة العولمة.
ولعلّ الملفت في المشروع التجديدي لعُمان والذي حمل رايته السلطان قابوس أنه استهدف الإنسان العُماني وجعله على رأس قائمة أولوياته، مما فرض عليه أشكالاً من الفعل والجهد اللازم للتعاطي مع هذا المشروع، والملاحظ أن الكثير من المؤسسين لأي مشروع جديد يحاولون التركيز على الدين وتوظيفه لخدمة مشروعهم من ناحية ولكي يتعاطف معهم الكثير من العامّة من ناحية أخرى، ولنا أمثلة شاخصة من حولنا في هذا الجانب استخدمت ولا تزال تستخدم الدين مطيّة لتحقيق أهدافهم، وبما أن (النظرة) و (الرؤية) هما طرفا أي محاولة إصلاحية فإنَّ نجاح هذه المحاولة مرتبط بمدى عمق هذه (النظرة) أي الدراية بالمجتمع العماني ومعرفة مدى كفاءته في التجاوب مع نداءات التطور واحتياجات هذه المرحلة التجديدية، وكذلك (الرؤية) الثاقبة لما يمتلكه هذا المشروع التجديدي من رسوخ وشفافية تقطع الطريق على المتأوّلين والمتصيّدين، ولكي لا يفقد هذا المشروع بوصلته عند أول منعطف يصادفه، فلذلك نرى أن الخطط الخمسية تكاد تكون مُحكمة وواضحة ومُثبّتة لاتجاه هذه البوصلة، إذ لم يكن هذا القائد يُريد أن يتحوّل العمانيون إلى شعب يقع صريع عدم وضوح الرؤى، أو العشوائية التي تخلط بالربط بين البداية والنهاية، ولنا في افتتاح جامعة السلطان قابوس في عام 1986م المثال الأبلغ في ذلك، حيث جاء افتتاحها بعد ستة عشر عاماً من عمر النهضة العمانية الحديثة، وفي وقتٍ يستدعي الأمر وجود جامعة في هذا البلد، حيث تتهيّأ السلطنة لاستقبال أوائل أفواج الخريجين من الثانوية العامة الذين بدءوا مشوارهم في المدارس الحكومية العُمانية التي أنشئت لهم مع مطلع السبعينات وليجدوا هذا الصرح العملاق بانتظارهم ليكملوا مشوارهم العلمي فيه، وكأنَّ هذه الفترة الزمنية تدلّ على دقّة التخطيط والتنفيذ في آن واحد.
قد لا يعتبر ما أشرت إليه جديداً على القارئ خاصّة فيما ربطت فيه بين الحكمة التي اتبعها السلطان قابوس والبُعد الحركي لها، وهو يقدّم الدروس تلو الأخرى، والحلول تلو الحلول مؤكّداً ومرسّخاً لمنهجيته التي أتت لتعيد للعقل العُماني ألقه وأهميته في زمن استفحل التهميش التام للعقل، لأنه يدرك أن التعاطي مع ما حولنا يتطلّب عقلنة مضاعفة، وتسييداً لروح الحكمة، حتى أصبح معاصروه في نعمة يحسدهم عليها غيرهم.. بعد كل هذا، يا ترى.. ألا يستحقّ كل ذلك منِّا أن نحافظ على هذه المنجزات والمكتسبات؟!