الاعتراف بالهزيمة نقطة الانطلاق نحو النصر

 

عبيدلي العبيدلي

فيما عدا المواجهة الفلسطينية التي قدمت قافلة جديدة من الشهداء التي ينضم إليها يومياً المزيد من الجرحى الذين فاق عددهم الألف، ممن حصدتهم آلة القمع الصهيوني عند مواجهتها لاحتفالية الشعب الفلسطيني بيوم الأرض التاريخي، الذي انضم إلى أيقونات التضحيات الفلسطينية اللامحدودة التي تزين صدر تاريخ المقاومة الفلسطينية للعدوان الصهيوني النازي الغاشم. هذا العدو الذي لم، ولن يكف عن مساعيه لفرض كيان مصطنع بالقوة، وإزالة حضارة بالقوة ذاتها... فيما عدا ذلك نشهد ردة فعل عربية باهتة تكشف خنوعا عربيا مزمنا تجاه سياسات العدو الصهيوني التي، بغض النظر عمَّا تحققه من مكاسب باهتة هنا وهناك، لكنها تبقى، بالمنظور التاريخي، تجسيدا لتراخٍ في عضلات جسد المؤسسة الصهيونية، وليس نموا في قوتها، كما يحاول العدو أن يزرع صورته في أذهان المواطن العربي، قبل حكوماته.

هذه المُقدمة، من الخطأ أن تقودنا إلى استنتاج مضلل يتوهم أن موازين القوى الحالية، انقلبت، لصالح العرب في معركة الصراع العربي – الإسرائيلي، فما تزال كفة الكيان الصهيوني هي الراجحة وبكل المقاييس، عندما يجري الكيل بمنظور المدى القصير، أو حتى المتوسط. لكن عندما تقاس الأمور من الزاوية الإستراتيجية، ومن مداخل مختلفة بعيدة عن تلك التقليدية، يكتشف المراقب، أن هناك بارقة أمل تشير إلى أن مستقبل الصراع لن يكون لصالح الكيان الصهيوني، إذا، وهنا ينبغي أن نقف مطولاً أمام كلمة "إذا"، كي نحسن تحويلها إلى وقائع حقيقية وليس أوهاما مرجوة.

إن أراد العرب، وفي مقدمتهم الفلسطينيون، أن يبدأوا الخطوة السليمة على الطريق الصحيح المؤدية إلى استعادة الوطن السليب، فعليهم أن يعترفوا، بينهم وبين أنفسهم، وبشكل صادق، وفي صورة علنية أننا هزمنا، ولأكثر من مرة أمام آلة الحرب الصهيونية. ليس في الاعتراف بالهزيمة ما يعيب. لقد اعترفت اليابان في 2 سبتمبر 1945، بهزيمتها أمام دول الحلف، إثر ضربها بالسلاح النووي في 6 و9 أغسطس من العام ذاته. وكان قبول إمبراطور اليابان في 14 أغسطس 1945 بقرارات مؤتمر بوتسدام، وتوقيع الحكومة اليابانية على وثيقة الاستسلام في سبتمبر من العام ذاته، أحد العوامل الرئيسة التي أدت إلى إنهاء الحرب الكونية الثانية.

لكن اعتراف اليابان بهزيمتها، كان قرارًا مؤقتًا، إذ لم تلبث طوكيو، وفي أقل من نصف قرن، وهي فترة قصيرة نسبيًا عندما يكون المقياس تقدم الأمم، من أن تتحول إلى قوة عالمية عظمى، يهدد اقتصادها أقوى اقتصاد عالمي وهو الاقتصاد الأمريكي، ويشكل منافسًا حقيقيًا له، وندا يهدده بشكل مباشر وغير مباشر، في كل أسواقه، بما فيها سوق الولايات المتحدة ذاتها.

وتقف وراء هذا التحول من أمة مهزومة، إلى أمة يحسب لها ألف حساب مجموعة من العوامل ساعدت اليابانيين على عبور طريق هذه الرحلة الشاقة، كان من بينها "وجود رؤية واضحة للمستقبل، والتزام دقيق بشروطها، وتوفر الإرادة القوية لإنفاذها على مستويات الدولة، وهيئات الشعب ومؤسسات الأمة كافة". فبعد الاعتراف بالهزيمة، سارعت القيادة اليابانية يتقدمها الإمبراطور هيروهيتو إلى "إنتاج وتأسيس نظام دستوري وبرلماني قائم على اعتبار الإمبراطور ليس إلهاً، وبذلك يكون قد منح اليابان نظاماً ديمقراطياً قائماً على احترام إرادة الشعب... وتبنت اليابان فلسفة (النهوض بالسلم) أو بالقوة النظيفة (Soft Power) التي تشجع الحلول الدبلوماسية وليس العسكرية للنزاعات التاريخية الموروثة من خلال التركيز على الطاقة الإبداعية لدى الشعوب والقدرة على التواصل والإبداع".

الحالة ذاتها تتكرر في ألمانيا، التي سارعت بعد إعلان هزيمتها وقبولها بالشروط القاسية المجحفة التي فرضتها دول الحلف المنتصرة عليها. لقد زرعت الحكومة الألمانية المنهزمة في أذهان المواطن الألماني ما أطلق عليه "النهوض من القاع". جرى ذلك في "حالة غیاب تام للحكومة، (حيث) بدأت النساء والشيوخ بجمع الأنقاض لإعادة بناء البيوت وجمع الأوراق والكتب من تحت الأنقاض لفتح المدارس. وكتبوا على بقايا الجدران المحطمة شعارات تبث الأمل وتحث على العمل (مثل) لا تنتظر حقك.. افعل ما تستطيع...  ازرع الأمل قبل القمح".

وقاد ذلك إلى أن "تحتل ألمانيا المرتبة الرابعة في قائمة أكبر الاقتصادات حول العالم، حيث نجحت الإصلاحات الاقتصادية في السماح بمزيد من خلق الوظائف، وهبوط معدل البطالة إلى 4.7% حالياً، وهو بين أدنى المعدلات في الاقتصادات المتقدمة". وبات الاقتصاد الأماني هو المسير للاقتصاد الأوروبي، وتحولت ألمانيا إلى أكبر المنافسين لواشنطن على المستويين الأوروبي والدولي.

القصد من وراء استحضار التجربتين الألمانية واليابانية هو أن ليس هناك ما يعيب عندما تعترف أمة ما بالهزيمة، شريطة ألا تتحول إلى أسيرة لها، وعبد لشروطها وقيودها، بل يكون كل ذلك محفزا حقيقيا للتمرد عليها والتخلص منها.

وهذا ما تجسده الانتفاضة الفلسطينية، التي إن أريد بها النجاح، فأكثر ما تحتاجه له اليوم هو:

  • قيادة مؤمنة، وليست متصنعة بذلك الإيمان، بقدرات الشعب الفلسطيني، ليس على العطاء حسب، وإنما العطاء المبدع أيضا القادر على قهر آلة القمع الصهيونية
  • وحدة وطنية لا تمزقها المصالح الذاتية للأفراد، القائمة على الأنانية النزقة، غير القادرة على رؤية الصوة الكبيرة، كونها غارقة في تفاصيل تلك الصورة التي تشدها بعيدا عن أهدافها الاستراتيجية الكبرى، وتخنقها في تلك التفاصيل المضللة.
  • رؤية تلك الثقوب التي بدأت تحدث شروخا في جسد الكيان الصهيوني، والتي تعبر عنها مجموعة الفضائح التي تمس أبرز قياداتها، والبناء عليها لوضع خطة استراتيجية تحول تلك الثقوب، التي ربما تكون ضيقة اليوم، إلى مساحات واسعة تنهك ذلك الجسد وترغمه على التهاوي.

ليس الشعب الياباني، ولا نظيره الألماني شعوبا من جينات مختلفة، لكنهما أحسنا اختيار القيادة التي قادتهما نحو النصر، على أنقاض الاعتراف بالهزيمة، بعد أن امتلكت إرادة التمرد عليها.