وأنا.. أحنُّ إلى خبز أمي

محمد علي العوض

بعد أن فاض به وعاء الطرب، أقسم صديقي بجُل أيمانه أنَّ أبيات الصمَّة القشيري التي تترنم بها فيروز:

إذا كان ذنبي أن حبّك سيدي.. فكل ليالي العاشقين ذنوبُ

أتوبُ إلى ربي وإني لمرةٍ.. يسامحني ربي إليك أتوبُ

بروحي تلك الأرض ما أطيب الربا...

وما أحسن المصطاف والمتربعا

وأذكر أيام الحُمى ثم أنثني على...

كبدي من خشية أن يتصدعا

وليست عشيَّات الحُمى برواجع إليك...

ولكن خل عينيك تدمعا

كأنَّا خُلقنا للنوى وكأنما حرام...

على الأيام أن نتجمعا

لا تعدو أن تكون نوستالجيا حادة، أهرق فيها الشاعر كل لواعج شوقه، وسكب فيها مداد حنينٍ إلى الأيام الخوالي. و"النوستالجيا" مصطلح يوناني الأصل، يُستخدم لوصف الحنين إلى الماضي بكل ما فيه من أنساق وشخوص وأحداث. وعدَّها بعضهم مرضًا؛ فهي تشير إلى الألم الذي يعانيه المريض إثر حنينه للعودة لبيته أو خوفه من عدم تمكُّنه من العودة إلى الأبد.

وفي الأعوام الأخيرة، أضحت تقنية نوستالجيا الحنين بكل أشكالها أحد مصطلحات الأدب المقارن النقدية، وصارت مبحثًا نقديًّا يتم توظيفه في دراسة النصوص الأدبية الحديثة؛ ولكن إن كان القشيري -الذي عاش في العصر الأموي- يُمكن تصنيف حنينه ضمن دائرة النوستالجيا، فإنَّ أجداده أساطين الشعر الجاهلي وأصحاب المعلقات الذين وقفوا على دار عبلة بالجواء، ودار ميّة، قد بكوا قبله دارس الرسم ومضارب ديار المحبوبة في مُفتتح قصائدهم، ولا تخفى على ذي بصيرة أنّ الوقوف على الأطلال وتمني جميل بثينة أن يبيت ليلة بوادي القرى لإتمام سعده، لا يخرج عن كونه تعبيرًا عن لسان حال الشاعر في تلك اللحظة، وما يختلج به فؤاده من نوستالجيا حنين وشوق لتلك الأمكنة والتضاريس، ومن يسكنها من أحبة ورفاق وذكريات.

ومن ذلك قصة ميسون الكلبيّة -ذات الجمال- فبعد أن تزوجها معاوية ابن أبي سفيان، بنى لها قصراً مشرفاً على الغوطة، زُيِّن بأنواع الزخارف وأواني الفضة والذهب والديباج الرومي، والموشى، ثمَّ أسكنها مع وصائف لها، فلبست يوماً أفخر ثيابها، وتزيّنت وتطيّبت بما أُعدّ لها من الحُلي والجوهر، ثمّ جلست وحولها الوصائف، فنظرت إلى الغوطة وأشجارها، وسمعت تجاوب الطير في أوكارها، وشمَّت نسيم الأزهار والرياحين، فتذكرت وطنها وحنّت إلى أترابها وأناسها، وتذكرت مسقط رأسها، فبكت وتنهدت، فقالت لها بعض حظاياها: "ما يبكيك وأنت في ملك يضاهيه ملك بلقيس؟".. فتنفست الصعداء ثم أنشدت:

لبَيْت تخفق الأرواح فيه..

أحب إليَّ من قصر منيف

ولبس عباءة وتقرّ عيني..

أحب إليَّ من لبس الشفوف

وأكل كسيرة من كسر بيتي..

أحب إليَّ من أكل الرغيف

فما أبغي سوى وطني بديلا..

وما أبهاه من وطن شريف

وليس ببعيد عن ذلك قصة عبدالرحمن، الذي رأى قافلة متجهة إلى الشام، فتذكر غربته في بلاد الأندلس، وبُعده عن وطنه، رغم أنّه في أبهة الملك.. فقال:

أيّها الراكب الميمم أرضي..

أقرئ من بعضي السلام لبعضي

إنَّ جسمي كما علمت بأرض..

وفؤادي ومالكيه بأرض

قُدر البين بيننا فافترقنا..

وطوى البين عن جفوني غمضي

قد قضى الله بالفراق علينا..

فعسى باجتماعنا سوف يقضي

في حاضرنا المعاصر أصبحت "الغربة/المنفى" نتيجة الظروف السياسية والاجتماعية ثيمة قدرية لعدد من الأدباء والكتاب؛ لذا كان من البديهي أن يُعبر الشعراء عن نوستالجيا ووحشة تعتصر قلوبهم، فاختاروا الشعر مُتنفسًا لزفراتهم الحارة، ونوستالجيا المكان والزمان -بما فيها من محمولات حدث وشخصيات- بديلا للمقدمات الطللية القديمة، ومن هؤلاء درويش الذي قال:

أحنّ إلى خبز أمي

وقهوة أمي

ولمسة أمي

تشعرُ من خلال هذا الحنين أنَّ الحبل السُّري بين درويش وأمّه لم ينقطع بعد، فلا يزال موصولا يُغذِّي ذات الشاعر، ويبعثه من جديد، فيتدفق ذكريات وتحايا:

سلام عليك وأنت تعدين نار الصباح

سلام عليك.. سلام عليك..

أما زال شعرك أطول من عمرنا.. ومن شجر الغيم.. وهو يمد السماء إليك ليحيا؟

لديني لأشرب منك حليب البلاد وأبقى صبياً على

ساعديك.. وأبقى صبياً إلى أبد الآبدين..

أما آن لي أن أقدّم بعض الهدايا إليك.. أما آن لي أن أعود إليك؟

يغرق درويش في سلامه وتوسلاته الابتهالية للأمومة كرمزٍ مقدس. مُصوِّرًا أمه في مشهد أسطوري عجائبي؛ فطول شعرها أطول من أعمار أبنائها والوطن، يتجاوز الغيم حتى يصل السماء؛ فالغيوم التي شبهها بالشجر تستقي وتحيا من الأم، وهي نبع ومنهل، وتنزاح مفردة السماء إلى النص المقدس، وتتناص ضمنيا وببراعة شعرية ماتعة تُشعرك بالقصدية مع حديث "الجنة تحت أقدام الأمهات".

من الصعوبة تحديد حضور الزمن في أبيات درويش هذه؛ إلا أنّ إعداد نار الصبح وصناعة الخبز تشي بسنين العمر الأولى الغضة، والتي تتعاظم فيها الحاجة لعناية الأم والبقاء في كنفها.. وحتى بعد نضوجه ما زال رقيبَ عَيْني أمّه، وفي هذا يقول:

 أمي تعد أصابعي العشرين عن بعد..

تمشطني بخصلة شعرها الذهبي..

تبحث في ثيابي الداخلية عن نساء أجنبيات..

وترفو جوربي المقطوع..

وجملتا "تعد أصابعي العشرين عن بعد" و"تبحث في ثيابي الداخلية عن نساء أجنبيات"، كناية عن المراقبة والحرص على تعهُّد صبيها حتى بعد بلوغه سن الرشد والبحث عن الشريك الآخر. وبشعور ملؤه الألم وحروف الحنين، يتحسَّر درويش على افتراقهما، وبلوغه أشده بعيدًا عنها:

لم أكبر على يدها..

كما شئنا: أنا وهي افترقنا عند منحدر الرخام

وملفوظات "لم أكبر على يديها" و"كما شئنا" و"منحدر" والخبز والقهوة واللمسة والأصابع والجورب المقطوع، معادل موضوعي محسوس دال على الحالة السيكيولوجية للشاعر، وما يعتريه من تشظٍ ونفس حزينة تحن إلى عاطفة الأمومة.

mohamed102008@windowslive.com