واقع وتحديات الأداء الحكومي

علي المعشني

عقدت، مؤخرًا، بكلية الدفاع الوطني بمسقط، ندوة بالعنوان أعلاه، حضرها طيف واسع من المعنيين والمختصين، بُغية الوقوف على واقع الأداء الحكومي في السلطنة، والتحديات التي تواجه هذا الأداء.

الندوة ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة بلاشك، فقد سبقتها العديد من الندوات والمؤتمرات وورش العمل، التي تهدف في النهاية لتقييم ومراجعة الأداء الحكومي في السلطنة؛ لوضع اليد على مواطن الخلل، والارتقاء بالأداء، بما يواكب العصر، ويتناغم مع وتيرة التنمية.

السلطنة، ومنذ بزوغ فجر النهضة المباركة، وهي تتلمَّس التطور والعصرنة كأي دولة فتية وناشئة في ركب الدول العصرية، وسعتْ قيادتها الحكيمة لسياسة التسريع في وتيرة التنمية للحاق بركب التطور بشقيه المادي والمعنوي ولبناء الدولة العصرية بوجهيها التقني والفكري؛ فكانت الطفرة التي نراها ونعيشها اليوم.

كانت الأولوية في السلطنة لبناء الوجه التقني للدولة، والمتمثل في البنية الأساسية، مع جرعات من الوجه الفكري والمتمثل في الفكر والثقافة وما يتعلق بهما من فنون وآداب وتشريعات وخلافه.

بقيت خطط وهاجس البناء التقني للدولة حاضرة وبقوة في أذهان ثقافة السلطة التنفيذية، والمتمثلة في الحكومة، رغم القفزات الكبيرة في هذا الجانب، بل وتشبعت جوانب منه بالاهتمام والتركيز، لهذا بقي الوجه الكريم للدولة -رغم أهميته الكبرى- مجهولًا ومهمشًا ويحظى بعطاءات المِنَّة لا بالتخطيط والسخاء المطلوبين، لتنهض الدولة بالتوازن والتوازي بوجهيها المعتاديْن، دون إخلال أو تجاهل أو تنكُّر لأهمية أي منهما وضرورته للدولة والمجتمع في أي زمان ومكان؛ فكانت النتيجة الماثلة أمامنا اليوم في تقديري الشخصي استشراء البيروقراطية والروتين في القطاع العام، وتضخمهما إلى درجة فقدنا ثقافة الفريق الواحد في الأداء الحكومي، وتعطَّل سقف الطموح لرؤية تنمية مُتفردة ذات وتيرة راسخة ومرنة تواكب العصر وتلبي حاجات الدولة.

قد لا يجد البعض ربطا موفقا بين المثالين، ويعزي وجود الروتين والبيروقراطية إلى ظواهر عالمية وأعراض جانبية مصاحبة للإدارة في أي دولة بالنسبة والتناسب، وأنا هنا أشدد على أن البيروقراطية والروتين هما أمراض إدارية مميتة، وأوبئة فكرية ضارة، تنتج عن غياب الوعي والفكر وفلسفات التنمية وغياب الضمير المهني لدى الموظف، هذا الضمير الذي بوجوده يشعر الموظف بأنه رقيب نفسه، وإن لم يكن يرى الله فإن الله يراه، وإن التنمية وفلسفة العمل والإنتاجية تقوم على الفردانية في الأساس، وشعور الفرد بأنه محورهما وأساسهما.

والوجه الفكري للدولة في حال وجوده ونفعيله يتكفل بالتوجيه والنقد البناء وتأصيل المفاهيم الخاصة بالإدارة والتنمية وفلسفة العمل، وما يتصل بهما عبر وسائل الإعلام والمسرح والدراما والكتاب والمقال والبحوث والدراسات.

يُمكننا الملاحظة وبجلاء عدد الندوات والمؤتمرات التي عُقدت تحت عنوان تطوير الأداء الحكومي، دون أن تحدث توصيات أو قرارات تلك الفعاليات أثرًا يُذكر على واقع الحال، والسبب في تقديري أن الحكومة هي الخصم والحكم إن جاز التشبيه؛ فهي الأداء وهي في المقابل من يُقيِّم الأداء ويقترح تطويره!! من هُنا فلا أمل في الخروج من تفكير الصندوق المغلق لإحداث أي تغيير ملموس.

لا شك عندي في إخلاص القائمين على تلك المناشط والفعاليات، ورغبتهم في التطوير ووضع اليد على مَوَاطن الداء، ولكن في تقديري أنَّ كل مشكلة لها جذور وفروع، وإن التعاطي مع الفروع دون الجذور لا يُعالج لُب المشكلة ولا يُلامس الواقع ويلبيه.

لجأتْ الحكومة إلى دعوات لمتخصصين من خارج السلطنة للاطلاع على تجارب بلدانهم، لكنهم في الغالب يحملون أفكارا وتصورات وحلولا بعيدة جدًّا عن بيئتنا العمانية، وحاجات وأطوار دولتنا ومجتمعنا. فإذا كانت الأمراض العضوية والنفسية اليوم تُصنَّف على العوالم الجغرافية المقسمة عرفيًا وفق وتيرة التطور والتنمية كالعالم الصناعي الأول والعالم الثاني وهي الاقتصادات الواعدة، والعالم الثالث وهي الاقتصادات والمجتمعات الناشئة، فما بالنا بالتنمية وخططها وطوحات الارتقاء بها.

فأمراض المدنية في الغرب، والناتجة عن البذخ والترف، لا نجدها في مجتمعات فتية وناشئة تُقاتل من أجل لقمة العيش؛ لهذا أنتجت كل بيئة أمراضها وعلاجاتها الخاصة، بل وسبل الوقاية كذلك، ومرد ذلك هو منظومة المعيشة من دخل وترف ومناخ وفقر وصحة...وغيرها من العوامل.

كُنت وما زلتُ أتمنى أن تنتهي كل مظاهر الندوات والمؤتمرات من بلادنا، ونستبدلها بثقافة المسابقات العلمية والمتمثلة في البحوث والدراسات لدراسة أو تقييم أي قطاع، أو شأن عماني يراد تسليط الضوء عليه أو تطويره أو استحداثه.

كما أتمنَّى من كل مسؤول حكومي أن ينفتح على مرؤوسيه ومؤسسته، ويطلب من كل موظف لديه كتابة تقرير عن وظيفته، ومدى رضاه عنها ومقترحاته وملاحظاته على العمل والإنتاجية وكيفية النهوض بالعمل وتطويره.

كما أتمنَّى من كل مسؤول حكومي أن يقر ويعدل في اللوائح الداخلية لمؤسسته كل مادة تعيق المصلحة العامة، ولا تلبي حاجات الناس، وتشكل مطلبًا دائمًا وملحًّا للاستثناء من قبل المراجعين؛ فهناك عدد من المطالب المتكررة من قبل المواطنين للمسؤولين وتلاقي في الغالب التفهم والاستجابة، لكنها في المواد القانونية محظورة، وطالما اقتنع المسؤول بالحيثيات المقدَّمة له من قبل المواطنين، فلا داعي لوجود المادة القانونية التي تحظر ذلك، ويجب معاملة جميع الطلبات وفق الاستثناء الممنوح من قبل المسؤول لهذا الطلب أو ذاك.

كما أتمنَّى تعريف قانوني دقيق وواسع لصلاحيات وكلاء الوزارات، وعدم ربط صلاحياتهم بمدى رغبة مسؤول الوحدة؛ وذلك من باب توسيع الصلاحيات ومكافحة المركزية وتفرغ مسؤول الوحدة لدوره الإشرافي الحقيقي، وتجنبه الدخول في تفاصيل دقيقة ومرهقة له ومربكة للعمل.

كما أتمنَّى تفويض كل موظف مسؤول عن معاملات ما بالتوقيع عليها وإنهائها للمراجعين، للحد من البيروقراطية والروتين، واحترام الوقت وتبسيط الإجراءات، وتحسين جودة الخدمة والأداء الحكومي؛ حيث لا يُعقل أن تتدحرج معاملة لأيام طوال في رُدهات وطوابق المؤسسة لمجرد توقيعات شكلية غير متخصصة ولا ضرورية.

كما أتمنَّى تفويض موظف بديل يحُل تلقائيًّا محل الموظف المفوض في حال غيابه لأي سبب كان في تخليص المعاملات وإتمام الإجراءات؛ للقضاء على ظاهرة الوزارة الحقيبة أو المؤسسة الحقيبة، والتي يحملها الموظف والمسؤول في سفره ومهمته وإجازته ومرضه وانشغاله!! وأن يُشاع هذا الإجراء ليفهمه الموظف والمعني كثقافة إدارية جديدة.

كما أتمنَّى استبدال سياسات الحواجز الإدارية المعمول بها اليوم في بعض المؤسسات لحجب المسؤول عن الناس بسياسة الباب المفتوح، والزيارات الميدانية لمرافق ودوائر المؤسسة بصفات دورية ومفاجئة حتى يتعرف المسؤول على معاناة الناس ومقترحاتهم وملاحظاتهم، ويقيم أداء الموظفين ويراجعه.. فأغلب المؤسسات والوحدات الحكومية اليوم تختزل في مكتب الرئيس والمسؤول عن الصلاحيات والاستثناءات، والمواطن يدرك ذلك، وبالتالي فوجود دوائر لخدمات المراجعين أو دوائر أو مديريات عامة في المناطق بلا صلاحيات أو وضوح تام في الإجراءات لا يخدم المؤسسة ولا المراجعين ولا المصلحة العامة.... وبالشكر تدوم النعم.

------------------------------

قبل اللقاء: أتمنى أن يتساءل كل مسؤول تترقبه الناس وتحاصره في مواقف السيارات أو منزله، وبشكل دائم، عن السبب الحقيقي لذلك، وأن يبحث عن وجود تقصير ما في أداء موظفيه، أو قصور في صلاحياتهم، أو غموض وعجز تشريعي.

Ali95312606@gmail.com

الأكثر قراءة