د. عبدالله باحجاج
عندما قرأت القرار الوزاري رقم (27/2018) المتعلق بتشكيل فريق عمل لإزالة المساحات الزراعية والآبار "المخالفة" في منطقة النجد بمحافظة ظفار، انتابنا شعور بالقلق، فكيف ستهدم جرافات وآليات سلطتنا المحلية مزارع قائمة منذ عدة سنوات، وقد أصبحت مصدرًا مهمًّا لأمننا الغذائي، ووراءها حمولة ديموغرافية ثقيلة؟ هل يستند قرار الهدم لدراسة تبين لصانع القرار مختلف الاحتمالات الناجمة عن الهدم، أم غرق في مفهوم المخالفة المجرَّدة؟ وهل ينطبق مفهوم المخالفات المتعارف عليها في المدن على واقع المزارع في صحراء الربع الخالي؟ وحتى لو سلمنا جدلا بتلاقي المفهومين، فهل هدم مزارع قائمة هو الحل الوحيد لسلطتنا المحلية؟
عندما نحاول رسم صورة ذهنية أو ورقية لسيناريو هدم المزارع، نجد أنفسنا نتوقف فورا؛ لأنه سيناريو فوق الافتراض، وفوق الواقع، فكيف نصوِّر مشهدَ هدم مزارع قائمة بمزروعات من نخيل وفواكه وخضراوات وحشائش، وبفدادين ما بين العشرات والمئات، أنفق عليها المزارعون الملايين، مسألة ليست بهذه السهولة، ولا ينبغي الافتراض بسهولة تنفيذ الهدم، ليس من منظور ردة فعل المزارعين، أو معارضتهم، وإنما الأهم هنا، حاجة أمننا الغذائي لهذه المزارع، وتوقف سوقنا على منتوجاتها، وأي مساس بها سيُحدث مجموعة أزمات بما فيها أزمة حشائش -وهى أحد التداعيات الحتمية للهدم- فمن سيتحمل تبعات هذه الأزمات الجديدة؟
لا نعتقد أنه من الحكمة إحداث مشكلات جديدة في مرحلة مليئة بالتحولات الاقتصادية، ربما أن صانع القرار لم تُعطَ له الخلفيات كاملة، ومن بينها أن قرار الهدم سيشمل ما بين (70-80%) من المساحات الزراعية الفعلية إذا ما تم الإصرار على منح كل مزرعة قائمة 100 فدان فقط، وكل بئر 10 فدادين فقط، وما زاد عنها يهدم؛ فهناك مزارع قائمة قد تصل مساحاتها ما بين 300-500 فدان. هنا، علينا أن نُجزم بحتمية تأثُّر أمننا الغذائي بهذا الهدم، ومنها يستصعب على فكرنا تجسيد مشهد الهدم "ولو ذهنيا"؛ لأنه سيكون مخيفا، ويعكس ثقافة العنف "الإداري" وتكيفات قانونية وإسقاطات مكانية لم تراعِ ظروفَ البيئات، ولا دور السلطات المحلية المتعاقبة مع مآلات الواقع الحالي في النجد الظفاري، ولا يُعبر عن فهم حقيقي بخلفياته الديموغرافية، وانعكاسات الهدم المستقبلية عليه.
لا ندري من وراء فكرة الهدم؟ من هو المبدع الذي اقترح الفكرة وصدقتها ميكانزمات القرار؟ ولا كيف مُرِّرت الفكرة على مستويات عديدة حتى صدرت في قرار وزاري لم يُناقش، رغم أن النقاش ضرورة اجتماعية واقتصادية بالنسبة لمزارع النجد في محافظة ظفار، والأغرب، سرعة اتخاذ قرار الهدم عبر الاستعجال بتشكيل فريق الهدم متعدد الجهات الحكومية، هذا القرار سيدخل في تاريخية القرارات القياسية المحلية، وربما على مستوى الوطن، فهو يعد أسرع القرارات الوزارية، يظهر وكأن هناك رغبة قوية نحو الهدم؛ فهو لن يتيح للمزارعين الفرصة في مخاطبة سلطاتهم العامة، وهذا حق دستوري لهم، منصوص عليه في النظام الأساسي للدول الصادر عام 1996، فلماذا الاستعجال على الهدم؟ الهدم شيء مؤلم نفسيا على المزارعين، فقد كانوا يتوقعون مكافأتهم على زراعة صحراء الربع الحالي، ومعاملتهم بنظرائهم الذين منحوا أراض زراعية بالمجان، ويحولونها الآن إلى تجارية -سيكون لنا مقال بشأنها- فقانون الأراضي يمنحهم الملكية الزراعية لمن يثبت زراعة 70% منها، هذا داخل المدن، فكيف بالوضع في الصحراء؟
فعلًا شيء مؤلم جدا أن يكون مصير ما تم بناؤه من عقود، يهدم في لحظات، لا يمكن تصور المشهد أبدا. ومما يزيد من الدهشة والاستغراب، صدور قرار فريق الهدم في الوقت الذي تدخَّل فيه المجلس البلدي بظفار، ورفع توصية مكتوبة إلى سلطتنا المحلية، مقترحا فيها الاعتداد بالوضع القائم للمزارع الفعلية، وبخفض الرسوم المرتفعة جدا، فلماذا تم تجاهل هذه التوصية؟ فهل اطلعت السلطة المختصة على التوصية قبل اتخاذ القرار؟ كما أن القرار يأتي في الوقت الذي قطع فيه المزارعون مرحلة متقدمة في استعمال حقهم الدستوري في مخاطبة سلطتهم العليا من أجل توضيح الحقائق.
وفي نقاشات مع سعادة المهندس محمد أبوبكر الغساني نائب رئيس مجلس الشورى وممثل ولاية صلالة، فتحنا هذا الملف، بحضور بعض أعضاء المجلس البلدي، ووجدنا سعادته متجاوبا معه، وأبدى استعداده أن يفتحه مع السلطات المركزية، وهذه التفاعلية مع هذه القضية المهمة، ستحسب لسعادته، بل إنها من أبرز مهام أعضاء المجلسين الشورى والبلدي؛ بسبب دورهم كحلقة وصل بين المواطنين والسلطات العامة، وهذه الآلية ينبغي تفعليها لدواعي كسر الاحتقان، وكسب السيكولوجيات المجتمعية، والدفع بها إلى التسليم بآليات وميكانزمات العمل المؤسسي الدستوري، بدلا من الخيارات التي قد يلجأوون إليها في حالة غياب مثل هذه التفاعلية.
لا يُمكن مساواة المخالفات في المدن بتوصيفات السلطة المحلية لما هو سائد في الصحراء، فتلكم صحراء شاسعة، وقاحلة، ولها ظروف بيئية مختلفة، ومكلفة ماليا، وقد اقتحمها شبابنا بعد توجيهات سامية من لدن المقام السامي؛ وذلك عندما دعا الشباب إلى الزراعة في الصحراء لوجود المياه، ونجحوا فيها بامتياز، وماهيات هذا الامتياز قد كشفناها في عدة مقالات؛ ومن بينها: استطلاع منشور في اليوتيوب، يمكن متابعته عبر البحث في محرك جوجل باسم "نجاح زراعة النجد بمحافظة ظفار"، وقد صل الإنجاز في الصحراء الآن إلى زراعة الأرز. هذا الإعجاز في الإنجاز "الفردي" هل نعترف به أم نهدمه؟ تبدو لنا فكرة الهدم قاسية، ومؤلمة ليس للمزارعين فقط، بل وللمطلعين على إبداعات نجاحاتهم في الصحراء التي لجأت إليها كذلك الحكومة نفسها، وأنفقت الملايين من أجل تأسيس شركة للأمن الغذائي، كما نقل إلى هذه المنطقة مزارع الباطنة بعد مشكلة الملوحة، وكان كل ما يحدث في النجد يتم بعلم وبمباركة السلطات المحلية المتعاقبة، وبدعمها الملموس، فقد مدت المزارع -المهددة الآن بالهدم- بالتيار الكهربائي، وشقت لها الطرق الترابية.. فكيف الآن تعاقبها بالهدم؟ الهدم ليس حلًّا، بل يصنع مشكلة مجتمعية عالية المستوى، ولدينا معرفة الآن بإرهاصاتها، وبمؤشرات تحولاتها، بالتأكيد ليست في مصلحة مرحلة التحولات، ولا ثوابت العلاقة المجتمعية المتجذرة، كما استدلال القرار بتوجيهات عليا في تحديد مساحة الأراضي، يضع هذه العلاقة في مواجهة حدية، لا ينبغي أبدا صناعتها، كما أن الاستناد لها يلغي دور الفاعلين في المؤسسات، وهذا خطأ قد وقع فيه القرار، فهل بهدف صناعة الخوف لدواعي التمرير، وإسكات الأصوات؟
الحل إذن: تثبيت المزارع المزروعة فعلا، واعتبار ذلك معيارا لإثبات نوايا الاستثمار الزراعي، وإعطاء المزارع الأخرى المساحة الكافية للزراعة، وكل من يثبت جديته في الاستثمار الزراعي يُملَّك أسوة بما حدث للمزارع في مدينة صلالة مثلا، كما أسلفنا سابقا، مع العلم أن ما يقوم به هؤلاء المزارعون يصب في توجهات الدولة في مجال الأمن الغذائي؛ فلماذا نلجأ إلى الهدم عِوَضا عن الدعم، على أن يصدر قانون جديد ينظم الأوضاع في النجد بأثر مستقبلي وليس بأثر رجعي؛ فغياب القانون -أو تطبيقه- مع غياب دور الفاعلين في المؤسسات المحلية، قد أنتج لنا ما تصفه السلطة المحلية بالتجاوزات، وهى تجاوزات لو سلمنا بها، ينبغي أن تُشَرْعَن للأسباب سالفة الذكر، وأهمها حاجة أمننا الغذائي لها في حاضره ومستقبله، والهدم سهل، لكن ماذا بعد الهدم؟ أجزاء كبيرة من الإجابة عن التساؤل قد تطرقنا إليها.. والبقية سنتركها للتصورات الذهنية.