حميد السعيدي
تبدأ الطائرة بالهبوط التدريجي عبر مياه البحر المتوسط، لتقترب من شواطئ بيروت؛ حيث أنغام فيروز "لبيروت من قلبي سلام... لبيروت وقُبل للبحر والبيوت، لصخرةٍ كأنها وجه بحارٍ قديمٍ"، تهبط الطائرة لتلامس الأرض؛ حيث ولد الشعر والحب على كلمات نزار، وحيث أصبح للجمال معنى، وللحُب قيمة على شارع الحمراء؛ حيث تغنَّى نزار: "في مدخل الحمراء كان لقاؤنا، ما أطيب اللقيا بلا ميعاد، عينان سوداوان... في حجريهما، تتوالد الأبعاد من أبعاد". هنا يرغب الإنسان في العيش بعيداً عن صراعات، بعيداً عن هموم العالم العربي ومشاكله واختلافاته، يبحث عن ذاته ليجد مكانًا يأوي إليه من ألم الدنيا، وفقدان الذات وغياب الإنسانية، يبحث عن وجوديته ومكانته، يبحث عن احترامه وبقائه على قيد الحياة، قبل أن تتقاذفه أمواج البحر المتوسط، ليُرمى على شواطئ النسيان، وربما يحاول أن يعيش مرحلة الصراع قبل الوصول للنهاية، ليبحث عن الاستجداء قبل الذهاب لرحلة اللا عودة.
فالرحلة إلى بيروت أخذتْ أبعادًا تاريخية مختلفة طوال السبع سنوات الماضية؛ حيث أخذت مسارات متعددة لكل مسار حكاية مختلفة ستبقى للزمن وتبقى للتاريخ، ليأتي أحدهم لاحقا يحاول أن يستكشف الحقيقية الغائبة، وربما يحاول إعادة صياغة التاريخ وفقا لفكره وأيديولوجيته، أو وفقا لقراءته للأحداث، ولكن ما نشهده اليوم قد لا يتقبل التاريخ أن يُسجل.
ولكن الرحلة لم تنتهِ بعد؛ فالماضي دائما ما يؤكد على أن الأرض مهما شهدت من صراخات الألم والخوف والموت تبقى صامدة، من أجل أن تكمل الحكاية لتصل إلى نهايتها الحقيقية، وقبل أن يعمد الآخرون إلى تغييرها أو تزييفها، تستكمل الحياة مشوارها دون النظر للماضي؛ لذا عبرت الطائرة كل هذه الأجواء التي كانت مغطاة بالغيوم التي لم توقفها تلك الحواجز أو الحدود، تلك الغيوم التي تمارس حريتها دون قيود، والتي تَبقى شامخة تنتظر صراعات الإنسان بالأسفل، وما بينها تحاول تلك الطائرة أن تخترق هذه الغيوم لتعبر من أجل الوصول إلى بيروت، وما بين رحلة وأخرى تغيرت المسارات، فما بين مسار كان يعبر الأجواء العربية عبر الأردن ثم إلى بيروت، ثم ما لبث أن تغير ليصبح في مسار فوق الأجواء السعودية وميناء العقبة ثم البحر المتوسط من أجل أن تصل إلى وجهتها، هذا التغير رغم بساطته وقلة تكلفته، إلا أن ما شهدته الأرض من أحداث كان الإنسان سببا في تسييرها وفقا لمصالحه وصراعاته، فأحدثت الكثير من القصص والروايات التي كان من الصعب على الإنسانية الحديثة أن تقبلها، حيث كانت الطفولة تغرق على شواطئ البحر المتوسط؛ حيث تقاذفها الأمواج لترمي بها على صخور شواطئ الموت؛ لأن الرحلة التي كان هدفها الهروب من الإنسان والبحث عن وجوديته بعيدا عن بلاد الموت، إلا أن القدر يرفض أن يرحل عن أرضه ليبقى محتفظا به، حتى ولو كان بلا روح؛ لذا جاهدت من أجل عودة إلى تلك الشواطئ لتنتهي الرحلة هناك.
ومع ذلك، فإن مسار الرحلة إلى بيروت تغير أيضًا ليُصبح طريقا مختلفًا؛ فقد أخذ المسار الثالث أبعادا أكثر انحرافا؛ حيث تغير على رأس الخليج العربي، ثم الأجواء الإيرانية والتركية عبر لواء الإسكندرونة، لتطل الطائرة عبر المياه المتوسطية وتهبط في مطار بيروت؛ لذا فقد أخذت هذه المسارات أحداثاً تاريخية كان لها دور كبير في تغير الواقع على الأراضي العربية، وأصبح الإنسان يبحث عن بيروت في ذاته، حيث لا يرى إلا راية السلام التي تطل عبر شواطئ البحر المتوسط؛ حيث تصطدم أمواجه بجروف منطقة الروشة، وتحاول أن تبحث عن شقوق لتعبر من خلالها نحو عالم الفوضى والنسيان.
فترة قصيرة كانت خصبة بالأحداث التي غيَّبت بلاد الشام عن الواقع، وأصبحت قيمة الإنسان أقل من قيمة رصاصة لا تتجاوز دولارا يُدفع لساسة الحروب؛ فهذه طفلة الغوطة لم تجد على هذه الأرض المكان الذي يضمها، فظلت تنظر للسماء بعيون مفتوحة، وهي تضحي بروحها من أجل أختها الرضيعة، التي تمسكت بغطاء الأكسجين على وجهها مقابل أن تضحي بحياتها، فأي أمومة تمتلكها تلك الطفلة، فقد فارقت الحياة وظلت عيناها مفتوحتين، ولا أدري ماذا تريد أن تقول للإنسان العربي الذي باع إنسانيته من أجل ماذا؟ سؤال أحاول أن أبحث عنه بين جدار بيروت القديمة، التي ظلت لفترات طويلة من الزمن لا تلونها إلا رائحة الدم؛ فماذا تبقى لقيمة الإنسان بين كل هذا الموت في سوريا، واليمن وليبيا والعراق، وفلسطين؟
وهُناك بالشمال؛ حيث ظلت مدينة جبيل تصارع أمواج البحر لفترات طويلة من الزمن، دون أن تستطع تلك الأمواج أن تسقط من شموخها، فظلت المدينة تكافح من أجل البقاء؛ حيث مدخل الميناء الفينيقي عند البوابة البحرية للمدينة صنع الإنسان حضارة عريقة، وتوالت خلالها شعوب مختلفة جاءت من مناطق بعيدة عن المدينة، تبحث عن المكان والإنسان، كان نتاجها بناء وجودية الإنسان، وبالرغم من النوايا التي جاءت بها إلا أن هذه المدنية كان تاريخها مليئًا بالصراعات والحروب، وفترات كانت نتاج حضارة متقدمة، إلا أنَّ هذه الأرض بقيت ورحل الإنسان الظالم والمظلوم، وظلت جدران المدينة وشوارعها التي بنيت من صخور البحر صامدة أمام أمواج الظلم والاستبداد.
فهل لنا عودة للبحث عن وجودية الإنسان، أو إيقاف جزء من صراع الزمن؛ من أجل أن يجد الإنسان مكانته ويحافظ على بقائه، من أجل أن تعيش الطفولة بين أحضان الرحمة لتجد لها مكان يحميها من براثن الظلم والاستبداد، أو لنا أن نبحث عن رحلة أخرى عبر التاريخ من أجل أن نتجاوز مرحلة الصراع إلى مكان ننظر فيه إلى ما يستطيع أن يجمع الأوراق المبعثرة بين أطراف مدينة بيروت، التي أصبحت ملجأ للهاربين من الموت والباحثين عن أمل الحياة.