الوظائف التقليدية المهددة بالانقراض وشبح التكنولوجيا المدمرة

 

◄ الذكاء الاصطناعي أحد أهم التقنيات التي تمكنت من تهديد وسرقة وظائف ملايين من البشر

 بدر بن محمد الندابي

قبل حوالي 22 عاماً، كنت أذكر تماماً الجهد الذي يبذله العاملون في الموارد البشرية والشؤون المالية لتنفيذ إجراءات صرف الراتب الشهري، حيث يشترك عدد كبير من الموظفين في إعداد ومراجعة كشوفات الرواتب والاستقطاعات وساعات العمل الإضافية والتي يتم تفريغها يدوياً في كشوفات ورقية بحجم A3 ومن ثمّ تمر تلك الكشوفات على عدد من الأقسام تنتقل بين عشرات من الإداريين والمحاسبين والمراجعين خلال فترة زمنية لا تقل عن أسبوعين من العمل المتواصل قبل أن تنتقل في مرحلة أخرى من الإجراءات إلى حساباتهم البنكية التي تستغرق أيام إلى أن يتم إيداعها بشكل نهائي.

وقبل 20 عاماً، لازلت أذكر الساعات والأيام الطويلة التي كنت أقضيها أمام شاشة الحاسب الآلي لبرمجة صفحة إلكترونية واحدة على الويب من خلال كتابة لغة برمجة من 600 سطر ومصارعة مهمة تقنية هدفها ترميز النصوص والصور الرقمية حتى تظهر بشكل مُنسّق أمام المتصفح.

 

وقبل 15 عاما، معظمنا يذكر الأيام الطويلة التي كان يستغرقها إرسال رسالة في صندوق البريد تحمل في طيّاتها وثائق ومستندات ورقية أو رسالة خطيّة من صديق أو فاتورة الكهرباء أو الماء أو الهاتف... إلخ.

وقبل 10 أعوام، الجميع قد يذكر الساعات التي كنا نقضيها للذهاب إلى البنك ومن ثم انتظار الدور لإنجاز معاملة تحويل مبلغ مالي من حساب بنكي إلى آخر.

وقبل 5 أعوام، جميعنا يذكر الخطوات التي تنظم إجراءات السفر إلى الخارج بدءا من الذهاب إلى وكالة السفر والسياحة لحجز التذاكر والفنادق ومن ثم التوجه إلى السفارة لطلب موعد مسبق لتعبئة عدد من الاستمارات يدوياً بهدف الحصول على تأشيرة قد تستغرق عدة أسابيع!!

أمّا في يومنا الحالي فتقوم معظم المؤسسات بتحويل رواتب الموظفين الشهرية من خلال خطوات رقمية لا تتجاوز عدة كبسات من أزرار الحاسوب حيث يتم إيداعها إلى أرصدة الموظفين خلال دقائق وإن تجاوزت ذلك فالعملية لا تستغرق ساعات العمل النهارية.

كما أصبح بإمكان الأشخاص العاديين "غير المبرمجين" أن يستعينوا بإحدى أدوات البرمجة لتصميم موقع متكامل في غضون دقائق معدودة.

ويمكن اليوم إرسال مستندات ووثائق إلى مختلف دول العالم وبشكل مباشر بين المرسل والمتلقي وعبر عدد كبير من المنصات الرقمية ودون الحاجة إلى وسيط وخلال ثوانٍ فقط.

كما أصبحت التحويلات البنكية من أسهل ما يكون من خلال الولوج إلى تطبيق في الهواتف الذكية يتيح لك استعراض كافة المعلومات عن حسابك البنكي مع خيار سحب كشف شهري أو إرسال حوالات مالية إلى مختلف دول العالم دون أن تحرك ساكنا من مكانك! وذات التطبيق يمكنه أن يستعرض عليك فواتير الكهرباء والماء والهاتف وسدادها بكبسة زر واحدة.

وفيما يخص الإجراءات المرتبطة بالسفر إلى الخارج، فقد أصبحت معظمها إن لم تكن جميعها رقمية وتقلصت مهام الموظفين العاملين في السفارات بحيث يتم الآن استقبال الطلبات واعتمادها في غضون 48 ساعة من خلال شاشات الحاسوب أو الهواتف الذكية.

المقدمة التي قمت بسردها أعلاه ليست إلا أمثلة بسيطة جداً من التغييرات الجذرية التي أحدثتها وتلك التي سوف تحدثها طفرة التقنيات الحديثة والتي يطلق عليها اليوم بالتقنيات المدمرة Disruptive Technology، هذه التقنيات تهدد عددا كبيرا من الوظائف التي نعرفها في يومنا الحالي وسوف تُغير من وجه العالم بشكل متسارع وفي فترة زمنية قصيرة، أقصر بكثير مما توقعه خبراء تقنية المعلومات قبل عدة أعوام.

من المخيف القول إنه خلال الأعوام القريبة القادمة، سوف يشهد العالم انقراض عدد كبير من الوظائف التقليدية والتي اعتمدت عليها اقتصادات الدول منذ عشرات السنين، وقد يشهد كذلك إلغاء عدد كبير من التخصصات الجامعية في المجالات التي لم يعد هناك حاجة لها في سوق العمل.

وإذا تحدثنا عن قرب حول أكثر الوظائف المهددة بالانقراض، فيأتي في المقدمة كلٌ من (ساعي البريد، وقارئ العدادات ومراسلي الصحف وأمين المخزن ووكلاء التأمين ووكلاء السفر والسياحة والأكاديميين في الجامعات في التخصصات التقليدية، وكذلك معلمي مراحل الدراسة الأولى، بالإضافة إلى بعض التخصصات الطبية والإداريين والمحاسبين والمراقبين الماليين ومهندسي الميكانيكا والطيارين وسائقي القطارات والحافلات وسيّارات الأجرة وموظفي مركز الإتصالات والقائمة تطول).

على الرغم من أنّ التكنولوجيا المدمرة تمكنت من هدم الكثير من الصناعات الثقيلة وتسببت في اندثار الكثير من المنتجات التقليدية، إلا أنّ لها وجها إيجابياً أكثر إشراقاً من الوجه السلبي. فكل ما كنا نشاهده في أفلام الخيال العلمي بات واقعا نعيشه اليوم بسبب وجود تلك التقنيات، حيث تقوم هذه التقنيات على تعزيز أسلوب عمل الآلات من خلال جعلها تتصرف بذكاء خارق واستيعاب عمليات معقدة بفارق كبير يضاهي قدرات العقل البشري، ولا شك أنّ التكنولوجيا المدمرة ساهمت وبشكل كبير على تسهيل نمط حياة الإنسان في هذه الأرض من خلال توفير أفضل الحلول والممارسات والأساليب لتنفيذ كل ما يدور حولنا في هذه الحياة ليس على صعيد المنزل والعمل والتعليم فقط بل امتد ذلك إلى إحداث تغيير جذري في منظومة العلوم الطبية التي ساهمت في إنقاذ أرواح ملايين من البشر.

 

ولو أردنا الإشارة إلى أهم التقنيات المدمرة فيتربع على قائمتها كل من (الذكاء الاصطناعي والابتكارات الطبية وسلسلة الكتل والعملة الرقمية وإنترنت الأشياء والطابعة ثلاثية الأبعاد، والواقع الافتراضي والواقع المعزز والمركبات ذاتية التحكم والطاقة النظيفة المتجددة.. إلخ)

ويعتبر الذكاء الاصطناعي أحد أهم التقنيات التي تمكنت من تهديد وسرقة وظائف ملايين من البشر، فنلاحظ في يومنا الحالي أن الروبوتات أصبحت تتمتع بقدرة خارقة أكثر مما كانت عليه قبل عدة أعوام، بل سوف تُغير من أنماط حياتنا وبشكل جذري خلال الأعوام القادمة، حيث تمكنت هذه التكنولوجيا من التغلب على البشر في تنفيذ الكثير من الأعمال الصعبة والخطيرة كالصعود على أعلى قمم الجبال لتركيب هوائي أو الدخول في بئر عميق لا يوجد به أوكسجين لإنقاذ إنسان أو حيوان أو الغوص في قاع البحر للتصوير والتنقيب.. إلخ. والمئات من الأعمال الأخرى التي يتغلب من خلالها الذكاء الاصطناعي على العقل البشري.

ويعكف علماء الطب خلال هذه الفترة حول إجراء أكثر العمليات تعقيداً بواسطة أجهزة الذكاء الاصطناعي وزراعة كلية اصطناعية من خلال الاستعانة بطابعات ثلاثية الأبعاد، هذه النقلة النوعية في العلوم الطبية سوف تُمكِّن الإنسان من الوقاية أو العلاج ضد أمراض العصر بشكل دقيق وبنسبة نجاح أكبر لم يكن باستطاعة العقل البشري إجراءها بهذه الدقة. فمن كان يتوقع من قبل أنه سيتم اختراع عين اصطناعية تتمكن من نقل الصور إلى العقل البشري؟ ومن كان يتوقع أنّه يمكن اختراع غدة درقية صناعية قادرة على إفراز الأنسولين في الجسم. ولا أستغرب مستقبلاً تمكن الذكاء الاصطناعي من تعويض الإنسان ما فقده من ذاكره وتطوير قدراته الذهنية، قد نشهد عصر جديد لعلاج أمراض مزمنة كالزهايمر والسكري والضغط.. إلخ، كل ذلك سيحدث من خلال الاستعانة بتقنيات الذكاء الاصطناعي.

كما استطاعت تقنيات التعلم العميق الاستحواذ على نسبة كبيرة من مهام البشر خاصة فيما يتعلق بالتواصل مع العميل، ومن المتوقع قريباً أن ينتهي دور الإنسان في تقديم خدمات الدعم والاستشارة في الكثير من القطاعات الحيوية كالبنوك والمتاجر الإلكترونية والمخازن والنقل والطيران.. إلخ.

تعكف الكثير من المنظمات في العالم على دراسة تأثير التكنولوجيا المدمرة بشكل مُتعمِّق، وتنبأ الكثير من خبراء دول العالم بالتهديدات التي سوف تحدثها تلك التقنيات خلال الأعوام القادمة، وقد قامت عدد من الدول المتقدمة بمراجعة خططها الاستراتيجية طويلة الأمد لمواءمة التغييرات من خلال تحديد احتياجاتها من الكوادر البشرية ومراجعة القوانين والضوابط الإجراءات في المرحلة المقبلة بهدف مواجهة العصر التقني.

وهنا استعرض عليكم قراءة سريعة للتغييرات الجذرية التي قد تحدثها التكنولوجيا المدمرة خلال الخمسة أعوام القادمة:

سوف تكثف البنوك والمؤسسات المالية خطوات الانتقال إلى عالم المعاملات الإلكترونية والافتراضية بهدف التقليل من المصاريف التشغيلية وتطوير مستوى الخدمات الرقمية، وهذا يعني وجود تهديد مباشر لوظائف المحاسبة المالية وقد يتم الاستغناء عن الآلاف منهم قريباً.

وسوف تتطور المنظومة التعليمية في العالم حيث سيتاح للطالب الدخول إلى الصفوف الافتراضية والاستعانة بالكتب الرقمية بدلاً من الذهاب إلى مبنى الجامعة، وهذا يعني وجود تهديد مباشر للمعلمين والأكاديميين الذين قد يتم الاستغناء عنهم في المستقبل القريب.

وسوف تتطور السيارات والمركبات والحافلات والقطاعات وتتحول إلى المنظومة الكهربائية، وستكون قادرة وبذكاء من نقل الركاب ذاتياً دون الحاجة إلى سائق، وهذا يعني وجود تهديد مباشر لوظائف سائقي المركبات وكذلك مهندسي الميكانيكا.

وسوف تتم أتمتة المعاملات في المؤسسات الحكومية والخاصة وسيتمكن المواطن والمقيم من تنفيذ كل المعاملات بواسطة الهاتف الذكي دون الحاجة إلى حضوره شخصياً إلى مبنى المحطة الواحدة وسينتفي الحاجة لوجود موظفين لتقديم خدمات للمراجعين. هذا يعني وجود تهديد مباشر لموظفي تقديم الخدمة حيث سوف يتم الاستغناء عنهم قريباً.

ومع انتشار الصيدليات الافتراضية الذكية، أصبح الآن بإمكان الفرد أن يتسوّق دون الحاجة إلى صيدلي في الموقع فالذكاء الاصطناعي كفيل بالقيام بهذه المهمة على أكمل وجه، وكذلك هو الحال للكثير من المحلات التجارية ومراكز التسوق. هذا يعني وجود تهديد مباشر لموظفي المبيعات.

ومع التحول الكبير في البنية التحتية لتقنية المعلومات حيث تقوم الشركات بالانتقال إلى منظومة الحوسبة السحابية والشبكات الافتراضية والاستغناء عن الخوادم والشبكات السلكية، وكذلك مع تطور الذكاء الاصطناعي في صنع البرمجيات الذكية وتطويرها دون الحاجة إلى مطورين كالسابق، هذا يعني وجود تهديد مباشر للتخصصات الفنية التقليدية كـ (مهندسي الشبكات والمبرمجين).

قد لا يدرك البعض ممن يشغلون أحد الوظائف المشار إليها في المقال حجم الخطر الذي يهدده، لا أبالغ القول إنّ تلك التقنيات قد تقلص حاجة الوظائف التقليدية الحالية والتي تم الإشارة إليها بنسبة تصل إلى 60% خلال العشرة أعوام القادمة.

هناك الكثير من المباني الحكومية ومراكز المحطة الواحدة والتي تم تخصيصها لتقديم خدمات حكومية وغير حكومية ستصبح لا حاجة لوجودها خلال الأعوام القريبة العاجلة، وهذا ما لمسناه اليوم في كثير من الدوائر حيث حلت الخدمات الرقمية محلها بشكل متسارع وقد تنتفي الحاجة إليها قريباً.

نصيحة إلى المقبلين على الدراسة الجامعية، لا تفكر في المؤهل من زاوية الميول والمعدل الأكاديمي فقط، وسع مداركك وفكر به من خلال التعرف على الوظائف التي يمكن أن تشغلها بعد 5 أعوام من دراستك، ليس فقط خلال الخمسة أعوام الماضية، بل خطط لدراستك بحيث تمكنك من مواكبة التطور العلمي وطرفة التكنولوجيا خلال 20 عاماً قادماً.

أما على صعيدنا المحلي، فنحن بحاجة إلى تنفيذ سلسلة من التغييرات الجذرية التي من شأنها أن تسهم في مواكبة المرحلة المقبلة من العصر التقني، وذلك من خلال:

- إعادة هندسة إجراءات العمل في معظم أجهزة ومؤسسات الدولة والتخطيط المسبق لاحتياجات سوق العمل بما يتوافق مع المتطلبات التي ستفرضها تلك التقنيات خلال العشرة أعوام القادمة.

- الاستثمار في رأس المالي البشري من خلال إعادة النظر في التخصصات التي يتم تدريسها اليوم في الجامعات والكليات المحلية، وكذلك إيقاف ابتعاث الطلاب في التخصصات التي لا يتطلبها سوق العمل خلال الأعوام القادمة.

- وضع خطة استراتيجية لإعادة تأهيل الكوادر البشرية الحالية التي تشغل وظائف مهددة بالانقراض من خلال رسم خارطة طريق لتغيير المسارات المهنية للقائمين على تلك الوظائف.

- إيقاف بناء مراكز المحطة الواحدة للخدمات الحكومية، حيث تلجأ الكثير من الدول إلى استغلال الخدمات الرقمية للاستغناء عن الاستثمار في هذه النوعية من المباني والتي تكلف الدولة الملايين من الريالات.

ومن خلال هذا المقال، أناشد جميع الجهات المختصة بأهمية الالتفات إلى التهديدات التي سوف تحدثها التقنيات المدمرة على وجه السرعة من خلال دراسة وتقييم الوضع الحالي ومقارنته بالوضع المستقبلي، حيث لمست بعض المحاولات المبعثرة من المؤسسات العلمية لتسليط الضوء على هذه المسألة، ولكن وللأسف الشديد أرى أنّ ذلك الضوء لا يكاد يلمس جدار الحقائق التي تكشف التحديات التي تواجه الوظائف التقليدية في المستقبل القريب.. فهل يا ترى سنرى قريباً حراكا ملموسا من الجهات المختصة في هذا الشأن؟

 

 

تعليق عبر الفيس بوك