وداد الإسطنبولي
لكل مكان لغته الخاصة، وأحيانًا تكفي لمحة من مشهد عابر لتوقظ فينا أسئلة، أو تفتح أبواب التأمل في ما خفي من رموز ودلالات. وبينما كنت أتأمل برج النهضة في ظفار وهو يتلألأ بأضواء الليزر، قادتني كلمة واحدة إلى رحلة في أعماق التراث والمعنى.
تزيّن برج النهضة بمحافظة ظفار بإنارة الليزر الملوّنة، تمتد على جسده الرفيع، بنقش كتب عليه: "ظفار أرض التباشير". خطرت في بالي كلمة "تباشير"، التي توحي بالبشارة وطلائع السرور، فقلت في نفسي: خيرٌ قادم. فهذا البرج لا يتزيّن إلا لمُناسبات حافلة.
قطع حبل أفكاري صوت أحد الأبناء وهو يلفظ الكلمة خطأ؛ إذ قلب حرف التاء طاءً، أو لعل عينيه تزغللتا من ضوء الإنارة. ابتسمت وقلت له: ربما كلمتك صحيحة، لكنها تشير إلى المادة الكلسية التي يُصنع منها الطبشور. أما في هذا السياق، يا بنيّ، فالمعنى أعمق بكثير.
هنا، "البُشريات" تحمل رمزية أخرى. بحثت في الإنترنت عن "تباشير ظفار"، فظهرت لي صور قديمة لبنايات على أسطحها نقوش بارزة، بعضها بشكل وجوه محفورة كأسد أو حصان، وبعضها يبرز كأنها مُقدمة سفينة. علمت حينها أن هذه الصناعة فن معماري تقليدي، وزخرفة تراثية تعكس بيئة وثقافة المنطقة.
لم تكن مجرد زينة على البيوت؛ بل كانت تؤدي وظيفة قديمة؛ إذ كان أهل المنطقة يضعون عليها البخور وروائح اللبان، تبشيرًا بعودة أهل السفن، سواء في رحلة تجارة أو صيد أو طلب علم. فعندما يفوح عبق الروائح، يستدل به النَّاس على عودة الغائبين.
ومن وظائفها أيضًا التزيين، توضع في أركان البيوت، أو في المنتصف إذا كان المنزل قصرًا.
يعتريني سؤال: كيف كان لأهل ذلك الزمان فكر واسع، وقدرة على خلق رموز ودلالات تبقى أثرًا خالدًا، شاهدة لجيل بعد جيل؟