التحقيقات مازالت جارية

نيران الطرابلسي – أريانة - تونس


هل كان عليها أن تترك الباب مفتوحا كلّليلة قبل أن تنام، والنوافذ والتلفاز، لتصلها أصوات المارة، والسكارى ووشوشات الجيران.. ليحصرها الشارع من الوحدة، إن النساء أكثر الكائنات خوفا من الوحدة، بحثا عن الأمان والاسقرار، فهل هذا سبب خوفها، الوحدة؟ تستيقظ في منتصف الليل على صوت المنبّه، لتتفقد النوافذ والأبواب، علّ ريحا غاضبا مرّ من حيّها وأغلقها، أو لعلّها انهكمت في التفكير في وحدتها فنسيت إغلاقها حين فاجأها النوم عنوة،،، تعود إلى فراشها بقلب مضطرب، ورغبة شديدة في البكاء،،، النساء عادة يخفن كثيرا في الليل، لا يخرجن، خوفا من قطاع الطرق، والمكبوتين والسكارى، لا يفتحن الأبواب للعابرين، لا يفتحن النوافذ خوفا من السرّاق،،، فما هذا الهوس الذي يعشش داخلها بفتح ذراعيها وذراعيّ كلّ الأشياء حولها، سليمى امراة تجاوزت الأربعين تعيش وحيدة بعد وفاة أبويها في منزل العائلة في حي صغير بالعاصمة، تنفق من المال الذي تركه لها زوجها بعد وفاته وحيدا ليلا حين كانت في زيارة لإحدى صديقاتها في مدينة في الشمال الغربي، عادت إلى المنزل صباحا فوجدته جثة في الفراش، ومنذ ذلك الحين وسليمى تخاف الليل، تخاف أن تموت نائمة دون أن يشعر بها أحد، دون أن تهتز الأرض حولها، دون أن يبكي عليها أحد، إنّ الخوف من الموت شيء غريزي وطبيعي جدا،،، لكنه تحوّل إلى إعاقة في الاندماج في الحياة مع سليمى، فلم تكن تخاف الموت بقدر خوفها من الموت وحيدة في هذا الشارع المكتظ بالحياة.. استيقظت في الثانية فجرا على صوت وقع أقدام على السُلّم، جالت بنظرها في كامل الغرفة كلّ شيء في مكانه كما رتبته بعناية في الصباح،،، قفزت من سريرها، وخرجت من غرفتها والفرح بنجاتها من الموت يعتمر كامل جسدها،،، في الجهة الأخرى، كان السكارى يتبادلون الأحاديث في صالونها، حول أسباب وفات زوجها، لم تنزعج لوجودهم في منزلها، ولا لأصواتهم العالية، ولا لسكرهم ولم تشعر بالخوف من دخول الصالون وإلقاء التحيّة والجلوس معهم، وعلى الرغم من أنهم لا يردّون التحيّة ولا يبالون بوجودها، تجلس معهم وتتجرّع البيرة من قاروراتهم دون انزعاج، تسمع بإنصات لأحاديث سكرهم، عن شجاراتهم مع البوليس، عن جميلات الحي، عن أسرار العائلات، عن أخبار السياسة وفضائح الساسة، تسمع بانتباه وتركيز مبالغ فيهما وهي الشغوفة بمعرفة أكثر التفاصيل دقة عن الحياة.. جلست كالعادة في الأريكة التي اعتادت ليلا الجلوس فيها، وكأنهم تعمدوا تركها لها، تجرعت القليل من قارورة البيرة، وتفقدت ملامحهم في نظرة واحدة ثاقبة، ثم اندمجت في الاستماع إلى أحاديثهم.. قال السكير الأول: من المؤسف أن يترك الرجل زوجته وحيدة في البيت ويذهب لزيارة صديقه، وهو يعلم أنها مهووسة بالخوف من الوحدة، قال السكير الثاني: أظنّ أن سبب تركه البيت والسكن في مأوى العجزة، أنه صار مهووسا بالخوف من الوحدة أيضا، قالوا: إنها ماتت مختنقة،،، والسكير الثالث قال: لم يتوصلوا لشيء، قالوا إنه موت عادي.. كانت تراقبهم بشغف تحاول أن تعرف مزيدا من المعلومات وأسماء الذين يتحدثون عنهم، وإذ بالسكير الأول يقاطع تخميناتها بقوله: ما شأننا نحن سليمى تركت لنا هذا البيت لنسكر فيه بعيدا عن مطاردات الشرطة وأعين المراقبين وبرد الشوارع، لنشرب في صحة روحها،، في اليوم التالي وبالخط الأحمر الكبير كان مانشيت صحيفة الصباح يقول: "وفاة ثلاثة رجال اختناقًا في بيت مهجور، والتحقيقات مازالت جارية".

تعليق عبر الفيس بوك