الجنون في زمن الحروب

 

حميد السعيدي

يقول جون شتاينبك "الحروب هي عرض من أعراض فشل الإنسان كحيوان مُفكر" فعندما يصل الحال بالإنسان ضعف مقدرته على التفكير في إيجاد الحلول لمشكلاته يلجأ للاختلاف مع الآخرين بحثًا عن سبب لحدوث الصراعات والحروب خاصة عندما يصل إلى مرحلة السلطة والقوة، ويصبح الغرور مصدر التفكير، حينها يقتصر التفكير من أجل تحقيق الذات الباحثة عن المجد على حساب الآخرين، وهنا يقول فيودور دوستويفسكي "السلطة المطلقة التي لا حدود لها نوع من المُتعة، ولو كانت سلطة على ذبابة"، فالوصول إلى المتعة بالسلطة هي أخطر مرحلة يصل إليها الإنسان حتى تصل به أوهامه رغبة بالتحكم بالعالم، لذا فعالم اليوم يعيش مرحلة التناقضات والاختلافات وربما كانت الأوهام سبباً يدفع السلطة لصناعة الحروب، وما بين هذه التناقضات لا يجد الإنسان إلا التفكير في معنى وجوديته على وجه المعمورة وكيفية تسيير حياته بالأقدار التي لا يمتلك منها شيئاً أو سبيلا إليها.

إلا أن هذا الإنسان وما وصل به من تقدم في مختلف المجالات ما زال عاجزاً عن تفسير معنى الروح، وهو التحدي الذي ذكره الخالق قبل ألف وأربعمائة عام، وبعد كل هذه الفترة ما زالت البشرية عاجزة عن تفسير هذه الروح التي تتواجد بهذا الجسد، والتي لم يعرف أين تتواجد وبأيِّ جزء أو عضو منه، فقط ما تم معرفته أنها عندما تغادره تحوله إلى جثة خاوية كانت تشغل حيزاً من الفراغ، لابد من التخلص منها بدفنها في التراب حتى تأتي الحشرات الصغيرة وتقضي على هذا الحيز الذي تشغله، وتصبح جزءًا من الطبيعة لا وجود له، فطالما هذه النهاية لماذا نبحث عن السلطة على حساب كل شيء؟

لذا فهناك عنصران مرتبطان بحياة الإنسان هما الروح والقدر، فهو لا يدرك حقاً مهما فكر وأبتكر فلن يتمكن من اكتشاف حقيقة نهايته، ومتى سوف يرحل؟ وفي أي وقت؟ وبأيِّ أداة؟ في أي بلد؟ أسئلة كثيرة قد تجول بذات الفرد، ولكنه يُحاول أن يعمل، وأن يجتهد، وأن يصارع هذه الحياة بمختلف متضاداتها، بمختلف أوضاعها بالسلم أو الحرب، ويتعايش مع مرحلة الصراعات من أجل العيش، أو من أجل التنافس على الحياة، فيجد نفسه بين صراعات مختلفة ومتنوعة، وما بينها يحاول أن يترك أثر إيجابياً سوف تبقى ذكراه عبر التاريخ تمجده الأجيال وتحفظ إنجازاته وتشيد بها، أو يترك أثراً سيئاً تذكره الأجيال وتُعلن تاريخه.

لذا فالتاريخ يعود بنا إلى نشأة الإنسان الأولى وظهوره على وجه المعمورة، عندما اختلف قابيل وهابيل فكانت أول قصة قتل تحدث في تاريخ البشرية، وكأنها لعنة الأرض التي ترفض وجود هذا الكائن على سطحها، لأنها لم تُعد تتحمل ما يفعله من أفعال لا تمت للإنسانية بشيء، إلا من أجل إرضاء ذاته وإشباع نزواته التي تبقى غارقة في ظلام السلطة، ولا ترى معنى للحياة إلا بوجودها فوق كل شيء، حيث تبقى حياته مرتبطة بالموت.

ورغم معرفة الإنسان بهذا المصير إلا أنه يرفض الانصياع لهذه النهاية، ويرى نفسه في قمة القوة والجبروت، ونسى أنَّ هناك الخالق العظيم الجبار المتكبر ملك الملوك والقاهر فوق كل مخلوق، هو الله سبحانه وتعال، ويأتي هذه الإنسان الضعيف والفقير ويتكبر على بني جلدته، ويطغى عليهم، ويضع نفسه في مكانة العلو، ولا يرى إلا ذاته في المرايا السوداء المتكسرة بدماء القتلى والموتى والشهداء، فيضع نفسه في القمة حتى يصل إلى مرحلة قد يقول فيها "فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ" سورة النازعات (24)، فكانت بداية النهاية، وهذه الكلمة قالها فرعون في عهد الحضارة المصرية  القديمة، والتي وصلت لمرحلة من التقدم والتطور لم يشهد لها مثيل عبر التاريخ حتى عجز العلماء في العصر الحديث عن تفسير العديد من العلوم التي توصلوا إليها، ولكن عندما حانت النهاية لم تبق إلا الآثار التي يعبرها السائحون اليوم ويلتقطون الصور للذكرى، فانتهت وزالت وجاءت حضارات وشعوب أخرى، وبقى الإنسان هو الإنسان حياته مرتبطة بالقدر الذي لا يعلم نهايته.

ذلك القدر الذي قد يأتي اليوم ولا ندري أين يصل بنا الحال، فهل أقدارنا مرتبطة بحدث ما؟ ومكان ما؟ وشخص ما؟ وبتاريخ ما؟ أو أن الإنسان قادر على التحكم أو إدارة هذا القدر، أما الحقيقة فأن الإنسان لا يمتلك من هذا القدر إلا تقبله بأي شكل كان، ولا يمتلك حتى رفضه، فهو مساره الذي لابد أن يأخذه بكماله دون نقصان.

لذا نتساءل لماذا يعيش الإنسان مراحل مختلفة من الصراعات والحروب، فيشارك في حروب مع ذاته، ومع وطنه، ومع جيرانه، ومع بني جلدته، ولا يعلم متى يحاول إنهاء هذه الحروب التي يشارك فيها، ولكنها أصبحت تضم العديد من الراحلين نتيجة هذه الحروب، ولم تُعد الأرض قادرة على استيعاب تلك الأجساد التي غادرتها الأرواح، فقد أغلقت الأعين ولم يعد للنور مكان، وحل الظلام دون أن يكون له فجر يضيء، وأصبح الجسد هامداً لا حراك فيه، إنها لحظات الموت والرحيل.

ولا يوجد أشد ألماً من رحيل الأطفال تحت أنقاض المباني التي تساقطت عليها قذائف الشيطان، وعلى أم احتضنت أطفالها حماية لهم من الموت، ولكن جسدها لم يكن قادراً على الحماية من تلك النيران التي أشعلت في كل ما حولها فتحولت إلى رماد وغبار، وبقيت دموعها أرواح تدعو للظالم والمظلوم، ما بين تلك اللحظات تختفي أحلام الطفولة وبراءتها، وتموت بين براثن الحروب والصراعات، وتتوقف الحياة وتموت الأماني ولا يبقى للحياة معنى، فقد اغتصبت الطفولة وماتت الأحلام، كل ذلك لا لشيء إلا من أجل جنون السلطة.