الأبعاد الاجتماعية في خطابات جلالة السلطان بمجلس عُمان (1)

 

سلطان الخروصي

تشكل خطابات جلالة السلطان– حفظه الله ورعاه – بمجلس عمان أحد المنابع الرئيسية التي ترتوي من معينها مؤسسات الدولة وأبناء المجتمع؛ ملامح السياسة الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية؛ فهي جزلة الطرح وعميقة المقصد، فدراستها وسبر أغوارها واستظهار مدلولاتها وأبعادها تعتبر ثروة وطنية، يمكن استقاء زواياها نحو استيعاب تلك السياسة في ظل التغيرات المتسارعة محليا وإقليما وعالميا، ومن هذا المنطلق جاءت فكرة إطلاق سلسلة قراءات لخطابات جلالة السلطان المعظّم بمجلس عمان والذي تم افتتاحه بموجب المرسوم السلطاني رقم (86/97)، إلا أننا سنستهل قراءتنا للأبعاد الاجتماعية للخطابات التي سبقت مجلس عمان وبالتحديد في افتتاحية الدورة الأولى للمجلس الاستشاري للدولة في 3/11/1981م والذي جاء نصه:

".. إننا إذ نعهد إلى مجلسكم بمهمة إبداء الرأي والمشورة، في السياسة العامة الاقتصادية والاجتماعية للبلاد، فإننا نريد بذلك أن يكون المجلس إطارًا لجهد مشترك بين القطاعين الحكومي والأهلي، يتناول بالدراسة أهداف وأبعاد خططنا الإنمائية، والأولويات المقررة لمشروعاتها، والمعوّقات التي قد تصادف تنفيذ هذه الخطط، والحلول المناسبة لها، ولهذا كان حرصنا على تمثيل القطاعين الحكومي والأهلي معا في هذا المجلس تمثيلا يحظى فيه القطاع الأهلي بالأغلبية في عدد الأعضاء الذين يمثلون مختلف المناطق.."

نجد أنّ لغة الشراكة المجتمعية في رسم سياسة الدولة وأجندتها ورسم خارطة الطريق المُثلى للعيش الرغيد هي السائدة؛ وفي ذلك إشارة واضحة للنضج السياسي، واستيعاب لماهية المستوى الاجتماعي الآمن، الذي يسعى جلالته لتحقيقه؛ بهدف الوصول للمستوى المرغوب في سبيل تحقيق التنمية المستدامة، واستيعاب مستجدات المرحلة، علاوة على القناعة الحكيمة بأن يكون القطاع الخاص ومنذ بدايات تأسيس الدولة الحديثة أحد الأضلع الجوهرية في قطاع البناء والتنمية.

"..لقد اتخذنا ومنذ البداية سياسة تقوم على الترابط الوثيق بين الحكومة والمواطن في الاضطلاع بمسؤولياتنا وواجباتنا تجاه وطننا الحبيب؛ وها نحن اليوم نخطو خطوة أخرى تأكيدا لهذا الترابط، وتجسيدًا لحرصنا على توسيع القاعدة الاستشارية وفقا لمتطلبات مراحل التطور التي تعيشها البلاد، ووفقا لمبدأ أساسي التزمنا به دائما، ولن نحيد عنه أبدا، وهو أن تكون كل تجاربنا وكل أعمالنا نابعة من صميم واقعنا العماني، ومتوائمة مع القيم والتقاليد السائدة في مجتمعنا الإسلامي، ذلك أنّ التجارب الإنسانية قد أكدت ولا تزال تؤكد في كل زمان ومكان أنّ أسلوب التقليد المجرد، أسلوب عقيم، وأنّ أسلوب الطفرة أو القفز فوق الواقع العملي والظروف الموضوعية لأي مجتمع يؤدي دائمًا إلى مخاطرة جسيمة، لهذا نرفض التقليد، ونرفض الأخذ بمذاهب وأنظمة الطفرة ونؤثر أسلوبنا الواقعي في التفكير والتطبيق بعد أن أثبتت مسيرتنا صحته وجدواه ونحن لا نخطو إلا بعد دراسة عميقة وقناعة تامة، وحين نمارس العمل فإننا نراقب ونرى النتائج، رائدنا في ذلك الاستجابة لمنطق التطور، والانفتاح على رحابه الواسعة والسير نحو أهدافنا بخطى واثقة.."

في هذا النص نجد أنّ الخطاب يتسم برصانة اللغة وجزالة الرسالة؛ فقد انضوى على ماهية اللحمة الاجتماعية والتوافق الفكري والثقافي عبر رابط التاريخ العماني الذي استشهد به، وفي ذلك مدلول واضح على لغة الاعتزاز والفخر بالمجد الحضاري العماني المجيد، كما أنّه يُشعرك بالقيمة الشورية التي هي امتداد للنهج الإنساني والسماوي على حد سواء منذ أن بدأ البشر يعيشون وفق منظومة اجتماعية متجانسة، إضافة إلى أنّه يمزج بين أصالة التاريخ والدعوة للأخذ بمقتضيات العصر الحديث وإفرازاته، وهو ما يدعو إلى ضرورة تسلّح فئات المجتمع بالعلم والتاريخ والحضارة والمعاصرة؛ حتى لا تُخلق للجهل بيئات تنسف النسيج الاجتماعي، وتعزز الشعور بالنقص وعدم تحقق العدالة الاجتماعية، والمتفحّص لتفاصيل الخطاب يجده يقف على الحياد، ويمسك العصا من الوسط، فالتقليد الأعمى ترفضه السجية العمانية؛ فهو يجعل من المرء عبدًا مطيعا دون حِراك للفكر والاستنارة بالحقائق، والانجرار نحو التجديد المفرط والقفز عن الواقع قد يُدخل البلاد والعباد إلى مستنقعات لا تُحمد عقباها، لذلك نجد أنّ لغة الوسطيّة والمرحليّة في بناء الدولة وتجانس المجتمع هي لغة الخطاب السائدة، وهنا يبرز النهج الفكري السامي والمُستمد من تجارب الحضارات والأمم العظيمة التي أصبحت خالدة الذكر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كما أنّها انتهاج للشرع السماوي، والذي جاء به نبي الأمة عليه الصلاة والسلام، ناهيك عن كونه أسلوبا رفيعا ليتطلّع المجتمع ومؤسسات الدولة القيمة النوعية للتطور البنائي، وجعله مرحليّ التأسيس والتقويم والاعتماد، وبذلك يتحقق الهدف الأسمى منه في رفعة الحياة الاجتماعية والمعيشية والثقافية للوطن.

".. وبعد أن أبدى شعبنا روحا عالية في التعاون والعمل بكل العزم والإقدام والبسالة، فإنّه ليغمرنا جميعا شعور الفخر والاعتزاز بكل ما حققناه معا لبلدنا الحبيب من استقرار وإنجازات في مختلف المجالات، على الرغم مما واجهنا من تحديات وأخطار، ولقد وصلنا - بعون الله وتوفيقه - إلى مرحلة رسخنا فيها أقدامنا على الطريق، وحققنا أهدافا كانت تبدو في الماضي القريب أمرا بعيد المنال، وبدأنا هذا العام تنفيذ الخطة الخمسية الثانية، منطلقين بها انطلاقة أكبر وأشمل في كل ميادين العمل والبناء.."

نلحظ أنّ الخطاب يمزج بين التقييم والشروع لهدف قادم؛ فهو ينتشي بتحقيق المنال والآمال التي رُسمت ومنذ الوهلة الأولى للدولة الحديثة استنادا للخطة الخمسية الأولى (1980-1976) والتي جاء أبرز أهدافها الاجتماعية:

  • توزيع الاستثمار جغرافيا؛ حتى تعود بالنفع على جميع المحافظات وتحقق المستوى الآمن من العيش الرغيد للمواطنين وتحقيق مظاهر التنمية المجتمعية.
  • دعم وتنمية المراكز السكانية الحالية والمحافظة عليها من خطر الهجرة الجماعية.
  • دعم الكوادر البشرية بالمجتمع لتكون رافدًا مهما في تحقيق التنمية المستدامة وخلق بيئة اقتصادية واعدة.

ليستهل الخطاب بعد ذلك بشائر الخطة الخمسية الثانية (1985-1981) والتي تمثل أحد الأضلع الرئيسية في منهجية بناء الدولة الحديثة، فجاءت استكمالا للنهج التنموي الوطني؛ إذ تضمّنت الأهداف الاستراتيجية الآتية:

  • إعطاء الأولوية القصوى لمد شبكات المياه والطرق والخدمات للمناطق، وتحقيق التنمية المجتمعية مع الأخذ بعين الاعتبار الطبيعة الديموغرافية والجغرافية لكل محافظة.
  • التوسع في إنشاء المنازل الشعبية وبخاصة الولايات لتحقيق التوزان الاجتماعي بين فئات الوطن.
  • التوسع في إنشاء مراكز ومعاهد التدريب المهني باعتبارها الحاضنة الأكبر لتنمية الموارد البشرية ورفع المستوى الثقافي والإنتاجي لأبناء الولايات.

لذلك أصبحت الخطط الخمسية للدولة هي خارطة الطريق للنهج الذي ينبغي أن تسير عليه مؤسسات الدولة في سبيل تحقيق التكامل والانسجام المجتمعي.

"..إن ذلك كله يبعث الرضا في نفوسنا لكنه يضعنا جميعا أمام مسؤوليات وواجبات أكبر للحفاظ على أمن واستقرار بلادنا، وحماية ما أنجزناه من تطور وتقدم، وتحقيق طموحاتنا في مستقبل أكثر رخاء وازدهاراً، فعلينا أن نستمد من تجاربنا الماضية عزما جديدا وتصميما أكيدا على العمل، متعاونين متكاتفين بكل ما لدينا من طاقات البذل والعطاء والتفاني في أداء الواجب، لنكون دائما في مستوى القدرة على تذليل الصعاب وقهر التحديات وبلوغ الأهداف التي رسمناها لأنفسنا من أجل خير بلادنا وخير أجيالنا الحاضرة والقادمة، ولنكون قادرين كذلك على القيام بمسؤولياتنا تجاه منطقتنا، وتجاه أمتنا العربية والإسلامية والبشرية جمعاء..".

في هذه الجزئية من الخطاب نجد أنّ الحس الوطني والقومي والإسلامي حاضر وبقوة، علاوة على الدعوة إلى التشبّث بإجزال الحقوق وتحقيق الواجبات، فالاستقرار الوطني أساس التنمية والحياة الإنسانية الكريمة، وهي لا تتأتّى إلا بوجود مرتكزات ضرورية قوامها المبادئ الإنسانية السامية يتقدمها الذود عن الوطن، ونبذ التفرقة والشقاق، وجعل الوطن غاية نبيلة وليس وسيلة لتحقيق المصالح الشخصية والحزبية، كما أنّه يستنفر القلوب والعقول للانضمام للحضن العربي القومي الأصيل والإسلامي النبيل، وفي ذلك انتهاج للثوابت العربية والإسلامية القائمة على قول النبي الكريم "المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا"، أضف إلى أنّه يستظهر نتائج الحضارات والأمم والشعوب الغابرة والتي خلدت ذكراها بعروتها الوثقى والاجتماع القويم، بينما اندثرت بعضها لتفرّقهم وتشرذمهم، ونلحظ أنّ الخطاب يعدينا لأمجاد التاريخ التليد وعبقه المجيد، كما يدعو إلى التشبث بالقيمة الحقيقية للإخلاص في العمل والتفاني فيه، وأخيرًا نجده يختتم باستشراق مستقبل الأجيال القادمة، ويتمسك بحقها في أن تنعم برغد العيش وسخائه؛ حتى لا تُخلق فجوة اجتماعية بين الأجيال السابقة واللاحقة، بل ليُمد جسر التعاون والبناء والازدهار حقبا تتلوا بعضها البعض.

".. إننا نأمل أن تقوموا بحمل الأمانة، وأداء الواجب الذي يقتضي منكم أن تتلمسوا مصالح المواطنين الحقة، وتتدارسوا احتياجاتهم، وتضعوها نصب أعينكم حين تبدون الرأي والمشورة، وأن تتوخوا الواقعية والموضوعية في معالجة الأمور، وأن تتفانوا في خدمة الوطن والمواطن على نحو يتكافأ مع نبل وشرف المهمة الموكلة إلى مجلسكم.. ".

 

يختتم الخطاب السامي دعوته للمسؤولين والمنوط بهم مهام الدولة والمواطنين بضرورة التمسك بقيمة الأمانة وقُدسيّتها؛ فالحفاظ عليها يبسط الطريق للتطور والتنمية، وتحقيق الالتفاف المجتمعي للدولة ومؤسساتها المدنية والعسكرية، بينما نقيض ذلك يخلق الارتباك وانعدام الثقة والانهزامية في بناء دولة المؤسسات، ومثل هذا الخطاب الموجه للمسؤولين يشي بجزء كبير من ثقافة محاربة الفساد وضرورة غرس الثقة والابتكار لدى المسؤول؛ فخلق مسؤول مخلص أمين خيرٌ من الزجّ بمسؤول غير كفء في مؤسسات الدولة يكون عبئا عليها وعلى المجتمع.

ختامًا نجد أنّ أول خطاب بالمجلس الاستشاري كان مُفعما بالقيم الاجتماعية والمبادئ السامية ضمن منظومة بناء دولة المؤسسات والتي من أهدافها المركزية تحقيق العدالة الاجتماعية، وخلق الثقة القويمة بين المؤسسات والمجتمع.

Sultan.alkharusi@statecouncil.om