القـــــاتلة المنتشية

نيران الطرابلسي – أريانة - تونس


كنت طفلة هادئة جدا ومرهفة، في داخلي أسئلة لا تحصى حول كلّ الأشياء من حولي، وكان ضعفي السنّي لا الجسدي يمنعني من معرفة ماذا يحصل في الخارج، في آخر هذا الشارع الذي لا ينتهي.
أن تكون طفلا غير محبوب سيدفعك ذلك للبحث عن أي شيء، أي شيء تجذب به الانتباه إليك،،،
وكنتُ فطريّة أكره الشفقة، وأكره أن يتحوَّم الجميع حولي ويراقبون ارتفاع حرارتي ويطرحون عليّ الأسئلة التي تزيدني إحراجا، فتكبر عقدتي أكثر.. هل أنت بخير؟ هل تشعرين بألم في مكان ما؟ كنت حين أمرض ويشتدّ بي المرض، أتقوى على نفسي وأتصرف كأنه ليس بي مكروه، وحين كبرت أيضا كبر معي هذا الإحساس، فلا أزور المستشفيات إلا نادرا، وحين يشتدّ بي المرض ولا أستطيع المقاومة أذهب وحدي دون أن أزعج أحدا ودون أن أنتظر من يتعاطف معي..
كانت هذه مسؤوليتي تجاه نفسي تكبر معي، لكن في طفولتي كنت باذخة العطاء، لا أرفض أيّ طلب لأي أحد، لأني توصلت إلى أن الكبار بحاجة أيضا للأطفال، حين ترسلني أمي للمغازة، أمرّ على كامل الحي لأشتري جميع طلباتهم، تعلمت من ذلك كيف أقويّ ساعديّ، وحتى حين كبرت، لا يصعب عليّ أي عمل، أشكّ أحيانا بأن لي قدرات على تحمل كلّ الأشياء التي يراها الرجال صعبة ومتعبة.. العطاء الذي كنت أقدمه في طفولتي لم ينجح كثيرا، فأنا طفلة مطيعة فحسب في نظرهم.. لكن الحب الذي أبحث عنه لم أجده، ولم أتذوقه يوما..
للكبار مشاغل عديدة، أظنّ أني كنت أخرها، يصلون إليّ متعبين، فيصبون غضبهم عليّ وينصرفون، كذلك كنت عبئا ثقيلا، عليهم أن يتخلصوا منه بأي طريقة.
لكنني هذه المرة خلقت حبا، حدث ذلك في إحدى صباحات الصيف الحارق، كان عمري ثلاثة عشر سنة، أمرتني أمي أن أشتري لها الحليب وأعود بسرعة، حتى نذهب مع عائلة خالي إلى المرسى، ولأنّ كلمة المرسى جديدة على أذنيّ، شعرت أنها مغرية جدا، كنت متحمسة جدا، أولا لأن أمي أخيرا فكرت في أخذي معها إلى مشاويرها الطويلة مع أبي وأختي، وثانيا لأني نجحت أخيرا في لفت إنتباههم وجعلهم يفكرون فيّ، عدت إلى البيت بعد أن إشتريت الحليب فلم أجد سوى أبي يصلح الراديو، كان يبدو غاضبا جدا، سألته عن أمي، فأخبرني أنهم ذهبوا؟ وقعت كلماته عليّ كالصاعقة، مسكت رأسي بيديّ وإنفجرت باكية، ضللت أبكي عند رأسه ما يقارب الثلاث ساعات، أمرني بالدخول إلى غرفتي فرفضت، "أريد أمي الآن" وبقيت أصرخ وأبكي، ظننت أني تأخرت في شراء الحليب لذلك تركوني، ظننت أني المخطئة، لا يمكن أن تفعل أمي ذلك عمدا، أبي ملّ صراخي، أمرني بالدخول إلى غرفتي، رفضت بإصرار وأخبرته أني أريد اللحاق بهم، ازداد غضب أبي مع صراخي،،،
أبي رجل لا يعرف الرحمة، ولا أعرف من أين جئت بكل تلك الشجاعة لأرفض طلبه، نظر إلي وأنا في حالة هيجان تامة ومسك رأسي بيده اليمنى وألصقني إلى الحائط، لم ينظر إلى ولو نصف نظرة، كذلك لم يقل أي شيء، سالت الدماء ساخنة على وجهي. في ذلك الحين، في ذلك العمر، في تلك اللحظة تحديدا كبرت، كبرت كثيرا، وصرت أشعر بالحقد يكبر داخلي، خفت كثيرا أن أنفجر ويغرق العالم فيّ، بقيت على تلك الحالة، واقفة متجهة إلى الحائط وصامتة، هادئة بطريقة مخيفة جدا، بلا دمعة واحدة، حتى الألم لم أشعر به... سمعت صوتا في داخلي، صوتا ذكوريا، يقول لي، اهدئي، اهدئي، سنزور المرسى غدا، ثقي بي أنا أحبك، ذلك الصوت ظلّ يتكرر ويتكرر داخلي، صوت لا أعرفه، لكني شعرت بالثقة تجاهه..
في اليوم التالي حين استيقظت في الصباح، عاودني ذلك الصوت، "صباح الخير" تمتمت "صباح الخير"، وهكذا بدأت تدرجيا أعيش مع ذلك الصوت الذي سميته حبا، وكبر معي، لم أعد أبالي إن تركوني في المنزل أو أخذوني معهم، لم أعد أبالي بشيء، كنت أتحدث معه طوال الوقت، في كل مكان، زرت الكثير من الأماكن برفقته، أو ربما كنت أتخيّل حدوث ذلك، مع الوقت سميّت الصوت الذكوريّ "بيرم" أو ربما هو اسمه الحقيقي، وحتى حين دخلت المعهد، ويسألونني هل لي أصدقاء؟ "نعم صديق مقرب اسمه بيرم يعيش بعيدا عن هنا في المرسى".
لكن إلى متى سيظل ذلك الصوت يتبعني؟ الجميع يريد معرفة صديقي، وبعد عدة نقاشات مع الصوت قررنا أن ننفصل، أن أقتله في حادث مرور.. وحدث ذلك، وأصبحت أجيب كلّ من يسألني عنه بأنه توفي، أنا أيضا بكيت كثيرا، لأني لم أعد أسمع الصوت، حتى الخيالات التي كنت أراها لم تعدّ تأتني، لا أعرف كم مرّ على وحدتي وحزني، فقد أحببت (بيرم) أكثر من أي أحد في هذا الكون، أحببته بصدق، وبإرادتي قتلته، كانت فكرة أن أكون قاتلة تستولي على نومي وأحلامي، وكنت أراني في كل مرة أقتل فيها (بيرم) بطريقة.. صرت أزور مدينة المرسى مرة كلّ سنة، لأقتل بيرم وأعود منتشيةً، إنه مازال يلاحقني إلى الآن، وفكرة القتل المتجدد جيّدة جدا..

تعليق عبر الفيس بوك