مظاهر "ديمقراطية" الحوار الإلهي

محمد علي العوض

يستمد مصطلح الحوار أقدميّته من وجود الإنسان ككائن اجتماعي متصل مع غيره من المخلوقات سواء بالكلام أو الإشارة والرمز. وبوصفه نمطا وتقنية سردية يسهم مع غيره من الأنماط في بناء التشكيل السردي للرواية، فهو يقلل من رتابة السرد ويعمل على تنويع المواقف، ونمو العمل الروائي أو القصصي باستمرار، ومن خلاله يتم التعرف على الحدث والعُقدة والشخصية والزمان والمكان.

توسّل القرآن الكريم طريقة الحوار لعرض كثير من القصص؛ لتبسيط الفكرة وتسليط الضوء على الحجج والأفكار التي يسوقها المتحاورون، فهو أكثر فاعلية من أسلوب العرض التقريري الذي يسوق القصة بأسلوب السرد الحكائي؛ لذا لا غرابة أن نجد الأسلوب الحواري في القرآن الكريم أكثر حضورًا في بنية القص الكريم وطاغيا على غيره من أساليب التشكيل السردي الأخرى؛ ومن ذلك حوارا المولى عزّ وجل مع الملائكة ثم إبليس اللعين: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعون (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُم أجْمَعِينَ)..

في الحوار الأول- السريع الخاطف- مع الملائكة تقابلنا مشاهد استباق سردي لم تؤثر على زمن الحكي أو تشوّه بنيته، تجاوز فيها حاضر حكاية نيّة الخلق (إنّي خالق) والأمر الإلهي (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) إلى الخلق نفسه وبدون ذكر كيفيته، بل أشار إليها النص المقدس تحت دلالة جملة (فسجد الملائكة) ويلاحظ في هذه السابقة الزمنية عدم الإسهاب في شرح كيفية الخلق؛ فقط مجرد كلمات مقتضبة. كما يمكن اعتبار جملة (فسجد الملائكة) كوحدة سردية وردت بعد الحوار استرجاعًا سرديًا، تمت الإشارة إليه بدلالة (إنّي خالق) الواردة قبلا في الحوار، فالفعل الماضي "سجد" استرجاع اعتمد على فاعلية ذاكرة الملائكة حين أخبرهم الخالق بأنّه سيخلق بشرًا من طين وأنّه أمرهم أن يقعوا له ساجدين حين ينفخ فيه من روحه الكريمة. وقد مهد حديث الله مع الملائكة" لمشهد الحوار الثاني – الصافي- مع إبليس، وفي هذه الحالة جاز أن نعتبر الحوار الأول مع الملائكة بجملته استباقًا للحوار الثاني مع إبليس.

وتدل أفعال الماضي (سجدَ، منَعَك استكبرْتَ، كُنتَ، خلقتَه) على تجاوز الزمن السردي لتقنية الاستباق إلى حدوث خلق آدم عليه السلام، ويتم كسر زمن القصة لينفتح الحوار على مشهد استرجاعي يستدعي ماضي خلق آدم (لما خلقتُ بيدي) ويتم توظيفه في الحاضر السردي.

لم تشترك الملائكة في حوارها مع الرحمن بالحديث اللفظي كما فعل إبليس، وربما يظن ظان أنّ الحوار كان من طرف واحد أو صامتاً يملأه القارئ بما يناسب الفراغ، ولكن الحقيقة أن الملائكة شاركت في الحوار بآلية اتصال أخرى هي حركة الجسد؛ أي السجود (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعون) لأنّ الحوار يأتي أحيانًا بلغة غير ملفوظة من خلال الإيماءات والإشارات الجسميّة، واستبدال الحوار اللفظي بفعل امتثال الملائكة دليل على طاعتهم للخالق ومصداقاً لقوله تعالى:(... لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون).

يتوسط الحوارين ما يسميه "جيرار جينيت" بتقنية "الاستراحة" أو ما يُعرف بـ"الجملة القصصية" عند "تزفتان تودوروف" وهي توقف مُعيّن في زمن السرد الروائي يحدثه الراوي بسبب لجوئه للوصف؛ فبعد الحواريّة الأولى مع الملائكة يتوقف الحوار لتتلوه وحدة سردية "دُنيا" خاتمة له (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) ثم تبدأ وحدة سردية أخرى (إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) تمهد للحوار الثاني مع شخصية أخرى هي إبليس.

ويصنف نوع الجملة في الحوارين بالمباشرة وفيها ينجز الفعل الروائي بشكل مباشر، ففيها تحتشد الحوارية بالجمل الإخبارية مثل (إنّي خالق) (أنا خير منه) (إنك من المنظرين) (لأغوينهم أجمعين) (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم). ونعثر في الآيات الكريمة على أفعال كلاميّة تتمظهر في الحوار بين الطرفين رب العزة وإبليس اللعين؛ وهي أفعال اختص بها السلوك اللغوي مثل: (سَوّيتُه، وَنَفَختُ، خلقتُ، لأملأنّ...إلخ) كما تؤدي أفعال الأمر والوعيد كـ"لأملأن" وياء النداء ما يسميه بوهلر وجاكبسون بالوظيفة الندائية؛ بجانب أنّ أفعال القول السردية أثناء الإخبار عن الشخصيات في لغة الحوار أدت لتماسك وحدات النص السردي، وضبط الحوار، والتمهيد، ومنع كلام الشخصيات من التشتت، وتشكيل لغة الحوار الروائي؛ فالفعل "قال" الذي تكرر مرة واحدة في حوار الخالق مع الملائكة و8 مرات في حواره مع إبليس، يثبت طاعة الملائكة في مقابل رفض إبليس الامتثال للأمر الإلهي بالسجود، ويؤدي الفعل كذلك وظيفة التدليل الوصفي للمتحدث، ونعرف من خلاله أنّ الحوار اعتمد أسلوب الحجاج والأسئلة والأجوبة المباشرة بإعجاز لغوي جميل. وإبراز قضيّة اختلاف الرأي؛ والنقاش بالتي هي أحسن؛ فحينما عارض إبليس المشروع الإلهي لم يلغه الرحمن من الوجود أو يصادر حق اختياره؛ بل سمح له بالعمل على مشروعه، ومنحه وقتًا مستقطعا (.. فأنظرني إلى يوم الوقت المعلوم) وإرجاء العقوبة حتى ذلك الحين؛ الأمر الذي يشي بديمقراطية الحوار الإلهي وعدم تكميم الرأي الآخر.

mohamed102008@windowslive.com