حميد السعيدي
الإجرامُ مهما اختلفت أشكاله، وتنوعت، فهو القيام بفعل مخالف للقانون، وبغض النظر عن التعريفات المتنوعة، إلا أن القيام بأي فعل يخالف القانون يقع تحت مفهوم الإجرام، ولا يوجد أشد إجراماً بحق الوطن أكثر من تزوير الشهادة العلمية، خاصة عندما يتعلق الأمر بالتخصصات الطبية والهندسية والتعليمية، ويقول رسولنا الكريم: "من غشنا فليس منا"، والبراءة من هؤلاء دليل عظم الذنب الذي يرتكبه، ولا توجد مبررات يمكن أن تصاغ لإيجاد عذر لمن يقوم بتزوير الشهادات العلمية، بغية الحصول على حق ليس له، وعلى وظيفة لا تناسب قدراته؛ فهو يمتلك ما لا يستحق؛ لذا فهؤلاء المزورون اليوم متخفون في وظائف متعددة، وليس من السهل الكشف عن الشهادات المزورة؛ نظراً لوجود بيئة متنوعة قادرة على إصدار الشهادات العلمية، بل البعض منها وصل المقدرة على تزوير وسرقة مُتطلبات النجاح في المؤسسات الجامعية؛ فتصدر شهادة وفقا للمعايير، لكنها جاءت بالأساليب الخاطئة، وهنا تكمُن خطورة هذا التزوير.
وقد عرف المشرِّع العماني التزوير في قانون الجزاء العماني بأنه: "تحريف مفتعل للحقيقة في الوقائع والبيانات التي يراد إثباتها بصك أو بأي مخطوط آخر يشكل مُستنداً، قد ينجم عنه منفعة للنفس أو ضرر للغير: مادي، أو معنوي، أو اجتماعي". فعندما يتعلق الأمر بمستقبل الوطن، فإن هذا الإجرام لابد من التصدي له، من خلال وجود عقوبات صارمة لا تتعامل إلا بالشدة، فأرواح المواطنين لا يجب أن تكون على يد هؤلاء العابثين بالنظام، ولا يمكن اليوم التهاون في هذا الأمر لأنه وصل لمستوى لا يمكن القبول به، فعندما تقوم طبيبة بممارسة مهنة الطب في أحد المستشفيات الكبيرة في السلطنة، ولفترة زمنية طويلة، دون أن تمتلك شهادة علمية في مجال الطب؛ فهذا إجرام بحق كل المرضى الذين تعالجوا على يديها؛ لذا أتساءل كأي مواطن غيور على هذا الوطن، وأرجو أن أجد إجابات لأسئلة كثيرة أطرحها هنا، حتى نستطيع أن نحدد حجم ومستوى هذه المشكلة: كيف لها أن تقدم للمرضى الوصفات الطبية؟ وكيف تستطيع أن تقرأ الفحوصات الطبية؟ وتحدد التشخيص المناسب لحالة المريض؟ وكم عدد المرضى الذين تعالجوا بالخطأ على يد هذه المرأة؟ وهل أجرت عمليات جراحية؟ وكم عدد المتوفين على يديها؟ أو كانت سببا في وفاتهم؟ وما هي العقوبة التي ستنالها؟ وكم عدد الحاملين لشهادات مزورة في مجال الطب؟
الإحصائيات التي إصدارتها وزارة التعليم العالي، والبالغة 1250 شهادة مزورة في مجال الطب والتمريض والهندسة، وإدارة الأعمال، والتعليم، رقم كبير جدًّا، وهناك رقم ربما أكبر منه لم يكشف بعد؛ مما يعطي مؤشرات على مدى غياب الضمائر والروح الوطنية، وعدم الإحساس بحجم الفعل الذي يقوم به هؤلاء؛ حيث إن التزوير لا يقتصر على الشهادات فقط فهناك أسواق من أجل إعداد الطلاب للحصول على الشهادات العلمية في مجال الماجستير والدكتوراه؛ حيث توجد السوق السوداء التي يباع فيها كل ما يتعلق بالحصول على الشهادات العلمية؛ حيث توجد الفرق التي تعمل على تجهيز الأطروحات العلمية لجميع الفصول، وعلى الطالب أن يدفع المال ويحصل على كل شيء دون أن يبذل جهدًا في كتابة ورقة واحدة، وهذا النوع من الغش لا يمكن اكتشافه لأنه قد يحدث في جامعات على مستوى عالٍ من التصنيف.
ولكن هذا الرقم الذي أعلنته "التعليم العالي" منذ أكثر من ثلاث سنوات دليل على حجم المشكلة، ولكن: لماذا لم يتم تحويل كل هذه القضايا للجهات الأمنية؟ حيث لم يتجاوز حجم الشهادات التي تم تحويلها للجهات الأمنية والقضائية أكثر من 5% من الشهادات المزورة، في حين أن البقية ما زالت في أورقة التعليم العالي، وأصبح اليوم مطلبا أساسيا العمل على تحويل هذه الشهادات للجهات المختصة حتى يتم اتخاذ الإجراءات القانونية، التي تكفل الحماية للوطن من هؤلاء المجرمين المتخفِّين في وظائف متعددة لا نعرف مدى أهمية تلك الوظائف وأثرها على مستقبل الوطن وأرواح المواطنين.
الأمر الذي يدفعنا للتساؤل أيضا عن جودة التعليم العالي في سلطنة عُمان، في ظل وجود بعض الأستاذة الذين تم اكتشافهم في الجامعات الخاصة وهم يمتلكون شهادات مزورة، ومن جاء مخالفا للقانون فبكل تأكيد سوف يعمل على مخالفة القانون، وإعطاء الطلاب شهادات مزورة، خاصة بعد أن أصبح اليوم هناك العديد من المؤشرات على ضعف مخرجات الجامعات والكليات الخاصة، دون أن تقوم المؤسسة المعنية بالرقابة على هذه المؤسسات بالدور الحقيقي في المراقبة والمتابعة والتقييم لهذه المؤسسات؛ مما يُسهم في وجود الكثير من القوى البشرية التي لا تمتلك المعايير التي تساعدها على الدخول في سوق العمل، وهذه أحد المعوقات التي تقف أمام الشباب في الالتحاق بالقطاع الخاصة، فهم أنفقوا من جيبوهم بُغية الحصول على مستوى تعليمي مناسب، لكنهم حصلوا على ورقة مختومة دون أن يمتلكوا أدنى المهارات التي تساعدهم على الالتحاق بسوق العمل، وهذه خسارة كبيرة في القوى البشرية، والموارد المادية ألتي انفقت في مجال تعليمهم؛ فمن يتحمَّل مسؤولية ذلك؟ وإلى متى هذا الصمت تجاه هذه القضايا؟
فالوطن لا يُمكن أن يخطو خطوات نحو المستقبل في ظل وجود بعض الأفراد الذين خانوا الأمانة، وأصبحوا في عِداد المجرمين اللصوص؛ سواء من المواطنين أو الوافدين، الذي أردوا استغلال بعض الهفوات في النظام من أجل مصالحهم الخاصة، ومثل هؤلاء يجب ردعهم من خلال القوانين والعقوبات التي تجرم هذا الفعل المشين، فهم حصلوا على مستوى علمي ووظيفي واجتماعي لا يستحقونه، وحان الوقت للحصول على الجزاء الذي يتناسب مع إجرامهم.