"في غَيْهَب الغسق"

 

هلال الزيدي

هناك ثلة من الناس يقعون على شاكلتين إما متهاونين أو متمادين، وفي كثير من الأحايين يستغل المتمادون المتهاونين لأسباب كثيرة منها المعلوم ومنها المجهول، إلا أن المتهاونين يصبحون المطية التي يمتطيها المتمادي، فتراه يستبيح لنفسه كل شيء وفق توسعات وأطماع طويلة المدى،  لذلك فالشخوص المتهاونة أشخاص باحثون عن المادة ومجد مفقود لأسباب اجتماعية أو ربما خلقية، فيتم استغلالهم لتحقيق مآرب كثيرة، وهي مآرب مخطط لها وفق منهجية غرس السيف في الخاصرة، ليتحقق الموت البطيء أو شق صفوف كانت متراصة؛ وبالتالي تتأسس دول على أعتاب دول، أو تنفصل الأقلية عن الأكثرية، لتصبح ذات صيت وشأن، أو يتنكر الفرع للأصل فيقطع عنه الإمدادات، ويستحوذ على مقدراته ويبتلع أجزاءه شيئاً فشيئا، ليتسيد عليه، فتغيب شموس كانت أبيَّة، وتضمحل نفوس كانت مجيدة... كل ذلك يحدث في غَيْهَب الغسق.

إن المتطلع في المشهد العام، يتلمس وقع مصطلح  الخيانة التي تحاك  دسائسها نظير حفنة من مال أو مجد على كرسي زائل يمارس عليه المتهاون سطوته لخدمة مصلحته الخاصة، فيكثر شراء الولاءات وتتكون الأذناب، لذلك فقد سجل التاريخ قصصا كثيرة لحضارات أفلت وتفتَّتَت جراء انغماس عدد من الوجهاء في الخيانة، فكانوا بيئة خصبة يمارس عليها المتمادي رغباته التي تمتد للسيطرة على منافذ الوجود، ومنها تنقلب الأمور رأسا على عقب، فتتحول الملكية الحضارية والتاريخية بشكل تدريجي للفرع الذي أراد أن يكون في القمة؛ لأنه يمتلك المادة التي أباحت له أن يشتري ذمم اللاهثين خلف هالاتهم.

لقد تعددت أشكال الخيانة على مر التاريخ؛ فمنها ما يكون على هيئة غدر سافر، ومنها ما انصب في بوتقة عدم الإخلاص في إدارة المناصب، وهذه أكبر وأدهى خصلة تتكسر عندها الأمانة عندما يُوكل لشخص شؤون العامة، وهذا ما يؤدي لما يُسمَّى بالعبث بأمن الأوطان، والتآمر عليه، والاستحواذ على حقوق الشعوب تحت ذرائع كثيرة يسنها من بيده عصمة الحل والعقد، إلى جانب تسيس الفوضى المنظمة التي تنتعش في ظل غياب العدالة الاجتماعية من حيث توزع الثروات. وعليه، فإنَّ المتمادي  يسهل عليه استغلال تلك الهوة عندما يعظم الأسباب البسيطة ويحور  الحقائق بطريقة استفزازية تُساوم على حقوق الأفراد في المعيشة اليومية، التي غُيّبت عنوة نتيجة الجشع والحسد.

لم يرحم التاريخ الخونة الذين ساعدتهم الظروف للتستر على أفعالهم الشنيعة في فترة زمنية معينة، لأن بيع الأوطان لا يمكن أن يسير في نفق سري؛ لذلك فالكشف عن أعظم الخيانات التاريخية لا يحتاج ذروة وأحداثا، وإنما سرعان ما تنجلي الحقائق حتى ولو بعد حين، فالروماني بروتس، والهندي مير جعفر، والجاسوس الأمريكي جون أنتوتي، والبريطاني بول كول، علامات لا يُمكن أن تنسى في تاريخ  الخيانة وليس انتهاءً بما حدث في التاريخ العربي القديم أو الحديث، وما يحدث الآن في دول كثيرة لم يتأت إلا بعد ممارسة التسلط العقيم وتعدد أشكال القمع من قبل أنظمة جائرة في حق شعبها، ولا يمكن أن يكون هذا مبررا أو مصوغا ليظهر المنبطحين الخونة فيبيعون أوطانهم عبر مد العصا والجزرة، فهناك أمر ما يُدبَّر!

لا يتوقع عاقل أن يعيش الخائن حياة كريمة بعد انكشاف أمره،  وهذا أمر يسهم في قوة الردع الممارس ضدهم؛ مما يؤدي لتقويض انتشار هذه الفئة، إلا أن التستر عليهم منحهم قوة حتى بعد  انكشافهم،  وحفظا لماء الوجه يتم إبعادهم من الباب ليدخلوا من النافذة بامتيازات أكبر،  والبحث لهم عن مبررات اجتماعية كأن يقال تم التغرير بهم أو ربما كانوا ضحايا صراع جبهتين أو أكثر، لذلك يكون هذا الدافع كبيرا لمن انسلخ  من مبادئه الدنيوية لممارسة أي شكل من أشكال الخيانة.. فلا بد من قطع الطريق عليهم حتى لا يكونوا أداة يتحكم بها المتمادي المكّار.

نُكران الأصل من قبل الفرع متعدد بحسب قوة المادة التي أسهمت في تقوية عوده، وتزداد سطوته عندما تجد متهاونا يتاجر بنفسه قبل كل شيء لينسلخ من عمود الإنسانية إلى حضيضها؛ وبالتالي نسف كل بناء وقوَّض كل تضحية تراكمت على مسار التاريخ؛ لأنه لم ولن يشعر بقوة المنجز؛ كونه دخل منبطحا من أجل مصلحته التي تضمن له استمرارية ووجودا.

في الماضي بِيعت الذمم في "غَيْهَب الغسق". أما الحاضر والمستقبل، فقد نشرت في وضح النهار، فكانت القُبلة الجائزة شرعا والمستبيحة لعرض الحضارات، فهي القِبلة  التي يُمِّم شطرها المتهاونون الخونة.. لذا فلابد من دق ناقوس الخطر.

---------------------------

همسة:

قال لسان الدين الخطيب: "جاءت معذبتي في غَيْهَب الغسق، كأنها الكوكب الدري في الأفق.. فقلت نورتني يا خير زائرة، أما خشيتي من الحراس في الطرق.. فجاوبتني ودمع العين يسبقها، من يركب البحر لا يخشى من الغرق... قبّلتها قبّلتني وهي قائلة، قبّلت خدي فلا تبخل على عنقي". وللفظة ألف معنى، وللمعنى إسقاطات بألف مغزى، وحتى لا تنغمس القبلة في العنق علينا أن نضع العقدة في المنشار.

abuzaidi2007@hotmail.com