جدلية العلاقة بين المثقف والسلطة (1)

عبد الجواد خفاجي – ناقد وروائي مصري


مبتعداً ـ قدر الإمكان ـ عن الرطانة التي كثيراً ما ارتبطت بالباحث العربي، ومتخففاً ـ قدر الإمكان ـ من المصطلحات إلا ما يبدو ضرورياً، ونائياً عن مواريث وادي عبقر (أسلبة الرطانة)، والناجز في الطقس الثقافي والإبداعي أن "عبقر" ما هو إلا شيطان ينطق الهندية !.. الأمر يدعونا إلى الإشفاق على الجماهير العربية، ليس لأنها لا تفهم الهندية وحسب، بل لأنها أيضاً لا تتعاطى العربية كما ينبغي، غير أن المشكلة الأكبر من ذلك أننا لا نمتلك تأكيدات تعيد ثقتنا في "عبقر" نفسه، وفي قدراته على الفهم والتشخيص، منذ أضحى الواقع العربي عصيًّا على الفهم والتشخيص، خاصة مع تسارع الانهيارات وتلاحقها وتعددها في واقع مهيض. والحالة الأكيدة أننا نواجه حالات من سقوط المفاهيم القديمة والحديثة في خانة التخلف والجهل والتجاهل على أرضية لا يسيطر عليها أصحابها سيطرة أكيدة، بجانب ما يمكن أن نرصده من حالات الاغتراب الثقافي، ذلك المؤشر الأعظم على السقوط في اللاقدرة والسلبية والانزواء قبل أن يكون دالاً على الإبداع والفعالية.. فكيف إذن يمكننا أن نقبض على علاقة من نوع ما ـ جدلية أو غير جدلية ـ  يؤطرها الوعي بما يجب أن يكون، خاصة إذا كانت بين المثقف والمؤسسة؟.
 لست راغباً في توجيه صفعة أولى لموضوع البحث، رغم أن الصفعة تبدو ضرورية للإفاقة، وتلك إحدى مهام المثقف على أية حال، لكنه إجراء يبدو متسماً بالعنف الذي يداخل المثقف بوصفه منتجاً (بفتح الجيم) من منتجات واقع عربي عنيف.
إن تأطير العلاقة في إطار "الجدلية" في عالمنا العربي يبدو مجافياً لواقع العلاقة نفسها، لأنها تحتمل توصيفات أخرى تحددها طبيعة المثقف ودوره، وأنماط المثقفين والأيديولوجيات المرجعية، ومدى الحرية المتاحة والتي أراها منطلقاً أول نحو التغيير الذي يمكن أن يقوده المثقف، ليس هذا فحسب بل تتوقف على أصالة المؤسسات نفسها، ومدى إيمان المجتمع بدورها، إن كان لها دور، وهكذا يمكنني أن أنظر إلى توصيفات أخرى شائكة أنتجتها مفرزة الواقع العربي من عينة "تصادمية" وأخرى"تكاملية" قبل أن ننظر إلى رصد علاقة من نوع ثالث يمكن أن توصف "بالجدلية" حيث يبدأ المثقف تصادمياً لينتهي متواطئاً؟
العلاقة التكاملية، نكون أمام المثقف وقد حدد ـ هو بنفسه ـ وضعيته ـ منذ البداية ـ كخادوم عند (المسافة صفر) بالنسبة إلى السلطة.
 والعلاقة التكاملية تشبه العلاقة الجدلية ـ التي سنوضحها ـ في جانب واحد فقط، فكلاهما ينطويان على تواطئ المثقف مع السلطة، مثل هذا التواطؤ يجعل المثقف على مسافة منعدمة بينه وبين المؤسسة ليؤدي دورا تكاملياً معها، وقد يتحول معها المثقف إلى سلعة في يد المؤسسة السلطوية والسياسية والرأسمالية يقول برأيها ويعمل على تدعيمها وتحقيق أهدافها؛ لتتمثل لنا صورة كاملة لخضوع المثقف للمؤسسة، محافظاً على قيم ثبات المؤسسة ورؤيتها وديمومتها.
 ولكن بالنظر إلى كون المثقف رؤيويًّا متفرِّدًا ذا حس نقدي، ينزع إلى التجديد والتغيير ومن ثم يكون بداية تصادمياً مع المؤسسة،، ولكن المؤسسة كيان صلد قائم وفق أهداف محددة، ذلك يفضى إلى ثقافة مؤسسية، أو تنظيمية سائدة تصل إلى حد التقديس أحيانًا في نفوس المنتمين إليها، وبالتالي فالمثقف - هنا- سيكون هامشيًا، بالنظر إلى قوة المؤسسة وتجزرها، فهي لن تسمح له بتمرير أفكاره إلاّ بمقدار ما تريده هي، وفي الوقت الذي تريده، ومن ثم فإن مثل هذه العلاقة خاضعة للجدل والتجاذبات حين يتفلت المثقف إلى دائرة تأثير متسعة مع الجماهير، في ظروف مواتية، وهنالك تتحرك المؤسسات نحو المثقف بوصفه رؤيوياً، وذا سلطة خلقها بنفسه ومواهبه، وقادرا على استقطاب الجماهير .. تتحرك المؤسسة نحوه لاستقطابه و توظيفه أو إغرائه أو رشوته، والغرض هو أن تصل معه إلى نوع من العلاقة المتواطئة على نحو ما من قِبل المثقف. في هذه المساحة من التجاذبات سيظل دور المثقف هامشياً وقد بدأت المؤسسة في محاصرته ومحاورته وهدهدة نزعاته والسماح له بأداء دوره من خلال المؤسسة نفسها في اللحظات التي يبدأ فيها تواطؤه، وحين تطمئن لولائه وثقافته، وأحياناً وفي خداع سياسي تحبسه لفترة وجيزة، لتخلق منه بطلا جماهيرياً قبل أن تستعمله، وهنا ستكون العلاقة علاقة تأثير متبادل؛ لأنه سيتأثر حتمًا وسيؤثّر فيها بمقدار ما يمتلكه من مهارات تواصل وإقناع ومساحة يتحرك من خلالها، قد تكون النتائج مرضية للمثقف والمؤسسة معاً في النهاية، وقد استفاد كلاهما من تقارب الرؤى.. ترى كيف يمكننا وقتها أن نضمن لهذا المثقف استمرار ثقة الجماهير .. تلك التي وثقت به بالأمس وقد رأته اليوم يعتلي منابر المؤسسة، أو اكتشفت لسبب ما أنه يعمل بمعية المؤسسة السلطوية الفاسدة؟
ترى إلى أي مدى يمكننا أن نكون صادمين حينما نقول إننا بصدد البحث في جدلية العلاقة بين المثقف والمؤسسة في مثل هذا الطقس، وكأننا قد حددنا دوراً هامشياً متواطئاً للمثقف منذ البداية، لتبدو لنا صفة "الجدلية" تهمة في هذا الإطار؟.
ثمة علاقة ثالثة يمكن أن نرصدها متصفة بالـ"التصادمية" إذ يظل المثقف في علاقة صِدام حتى تفضي إلى ثورة على ثقافة المؤسسة إذا نجح المثقف في استقطاب الجماهير، وإلا فإنه إقصاء المثقف ـ في حالة الفشل ـ إقصاءً قد يصل إلى النفي ـ كما حدث مع الثورة العرابية مثلا، أو القطيعة الكلية كما حدث مع أمل دنقل ونجيب سرور كمثال آخر، وقبل ذلك كيف كان حال "جان جاك روسو" الذي عاش حياته متنقلا خفية بين البلاد يضع مؤلفاته بين جلده وثيابه؟ .. التاريخ حافل بمن نبذتهم المؤسسة منذ "الشعراء الصعاليك" في العصور الجاهلية الذين اتسموا بروح ثورية على مؤسسة القبيلة.. وكثيرون في التاريخ أرعبتهم المؤسسة وطاردتهم، ذلك لأنهم بوصفهم مثقفون حقيقيون يبحثون عن قيم العدالة والحرية المطلقة يرعبونها بفكرة التغيير، ولأن المثقف يتسم بقدر كبير من الثورية والقدرة على التأثير في الجماهير، نازعاً إلى الهدم والبناء على نحو ثوري شهد تاريخ الثورات تحققه.
ومع اقتناعي بأن ما طرحته عن أنواع العلاقات صحيح لمطابقته واقع الحال على الأقل، والتاريخ ـ في حقيقته، لا كما وصفه المؤرخون ـ جزء من الواقع، وليس لنا أن نجافي الواقع بأي حجة كانت إذا كنا نريد فهماً يؤهلنا لاجتياز علاتنا وإعاقتنا نحو تفعيل حقيقي لدورنا كمثقفين، وتفعيل الدور يعني اجتياز كافة معوقاتنا الحضارية نحو شراكة حقيقية في التصور والفعل الإنساني، بحيث نكون فاعلين في العصر، وفي رأي كثيرين أن المثقف بدوره وليس بتصوره وأفكاره فقط، كما يؤكد على ذلك "أنطونيو جرامشي" وهو الفيلسوف السياسي والمناضل الماركسي الإيطالي الذي سجنه موسوليني في العام 1926 وحتى 1937 وكتب ـ من ضمن ما كتب ـ في مذكرات السجن: " جميع الناس مفكرون، ولكن وظيفة المثقف أو المفكر في المجتمع لا يقوم بها كل الناس" ولعل  الحياة العملية التي عاشها جرامشي تمثل الدور الذي يُنسب إلى المثقف أو المفكر، فلقد تخصص هو في فقه اللغة ثم أصبح من العاملين بتنظيم حركة الطبقة العاملة الإيطالية، كما أصبح في كتاباته الصحفية من كبار المحللين الاجتماعيين ذوي التأملات العميقة الواعية" (1) 

تعليق عبر الفيس بوك