التقليد الأعمى



عبدالله العجمي

كم هو رائع ومبهج أن يكون لكل دولة مدرسة ذاتيّة وطريقة خاصة بها في رسم أساليب ومنهجيّة تكوين شخصية مواطنيها وبناء ذواتهم والارتقاء بهم علمياً وحياتيّاً، ولا ضير أيضاً من نقل تجربةٍ نجحت في دولة ما لتطبيقها واستنساخها أو تقليدها في دولة أخرى.. لكن أن يكون التقليد "أعمى"! كمحاولة استيراد تجربة بكل جزئياتها وكافة تفاصيلها لنسقطها إسقاطاً على مجتمع كما هي، هذا التقليد "الأعمى والأصمّ والأبكم" في آن واحد ستكون آثاره مدمّرة، ومضاره هدّامة وستؤدي إلى كثير من العاهات الاجتماعيّة كالذلّ والتكاسل والترهّل والانحلال السلوكي والتفكك الخلقي وسيُصبح الجهلُ حينها جهلاً مركّباً.
ليس بالضرورة أنّ ما هو صالح في دولة يصلح لأن يُطبّق في دولة أخرى بحذافيره وبذات الطريقة والأسلوب، بل ربما إذا ما طُبّق -دون دراسة - ستكون انعكاساته مدمّرة، ولست بوارد الدعوة إلى الانغلاق على الذات، إذ لا يمكن أن يتطوّر مجتمع بهذه الطريقة، لأن تكوين أي مجتمع إنما يكون بتعاون الكفاءات وتكامل الخبرات بينه وبين المجتمعات الأخرى.
وقد يقودنا الحديث عن التقليد والانغلاق على الذات إلى الحديث عن إغلاق باب الاجتهاد، وحسبما قرأنا أنّ السبب الكامن وراء سدّ هذا الباب الهامّ هو عدم الأهليّة كما برّر الكثير من سلف العلماء وسايرهم عليه غالبية الخلف، وقد ساق بعضهم الكثير من الأسباب التي دعت لذلك، إذ أنّهم يشترطون في المجتهد أن يكون متعمّقاً في دراسة أغلب المجالات الفقهية والعلمية وعلى دراية تامة في كل ما يعينه على استنباط الحكم بعد فهم المسألة فهماً دقيقاً، وهو من الصعوبة بمكان - كما ورد- أن يلمّ عالم واحد بذلك خاصة مع تشعّب العلوم وقِصر عمر الإنسان.
وبعد كل ذلك وجدنا أنّ الغرب قد خاض تجربة في هذا المجال وقد نجحت هذه التجربة لديهم، بحيث إنّهم استطاعوا التغلّب على كل هذه الشروط باستحداث مفهوم اسمه "التخصّص أو الاختصاص"، ولكن وبعد أن حاول الكثير منا استنساخها وتطبيقها كما هي في بلداننا العربية، عانت الكثير من دولنا بشدة من هذا الاستنساخ، رغم أنه كان هو السبب لازدهار دول الغرب ورفاهيته، ويعود السبب في ذلك إلى التقليد الأعمى، حيث لم يتوقف أحد عند هذه التجربة قبل تطبيقها ولم تُعط الوقت الكافي لدراستها لمعرفة إيجابيّاتها وسلبياتها وما يصلح وما لا يصلح لنا، فصارت عملية إسقاط على مجتمعاتنا دونما إدراك لعواقبها.
وَضَعَنا هذا التطبيق الخاطئ لهذه التجربة أمام أمرين: أمّا الأول فنادى بالعودة إلى حقبة ما قبل إغلاق باب الاجتهاد، وهذا مُحال تطبيقه في واقع كواقعنا الحالي، فلذلك دافع البعض عن صحّة إغلاق هذا الباب وحُرِمنا من إمكانية تطوير العلوم ولازمنا مكاننا الذي لم نبارحه منذ عقود. وأما الثاني فكان نداؤه باستقطاع جانب من تلك التجربة، مما أفرز لنا أنصافاً من العلماء فابتليت غالبية الشعوب العربية والإسلامية باجتهادات قاصرة وأفكار منحرفة وناقصة، وخرج بعضها -بسببهم- من جهل بسيط إلى جهل مركّب، ويعود ذلك إلى أنّهم لم يتدارسوا الأمر قبل تطبيقه، فلم يجتمع هؤلاء "المختصّون" ليتكاملوا، ولم يجلسوا على مائدة واحدة لتبادل الخبرات، ونقاش كل مسألة على حدة كلّ حسب اختصاصه ليخرجوا بعد ذلك برأيٍ أقرب ما يكون للصواب بعد أن تتكامل خبراتهم التخصّصية.
إنّ "المختصّين" من علماء الغرب تكاتفوا واتحدوا ليشكلوا خليّة هدفها تحقيق غاية تهم الجميع، غاية تقديم حلول دقيقة وناجعة لكل مسألة تخص المواطن أو الوطن، وهذا هو السر خلف نجاحاتهم وتطورهم في شتى مجالات العلم والحياة، بينما نرى في المقابل أن علماءنا يميلون حيثما مالت الريح -إلا ما ندر منهم- فكم من أستاذ جامعي نراه يكيل لمن يعارضه الرأي الاتهامات، وكم من طبيب أو مهندس يحاول الصعود على أكتاف غيره دونما مراعاة لحاجة المجتمع بل تتحكم به "الأنا" في كل ما يصدر عنه..
نعود لنقول إن مفهوم التخصص يصعب اجتزاؤه وتطبيق جزء منه دون آخر، أو بالأحرى على علمائنا أن يدرسوا حالة الشعوب الغربية دراسة معمّقة ليتمكنوا بعدها من الإجابة على الكثير من التساؤلات المطروحة..
لماذا فشلت هذه التجربة لدينا بينما نجحت وبامتياز لديهم؟
ولماذا نرى هذا الانسجام والتعاون هناك بينما نرى التناحر والحروب هنا؟
ألا تستحقّ مثل هذه التجربة أن نقف حيالها؟!
إن ابتعدنا عن الإبداع فلنكن على الأقل واعين ومدركين لما نستنسخه من إبداعات غيرنا.