السرد بضمير المتكلم في القصة القصيرة العُمانية

 

د. إحسان اللواتي – جامعة السلطان قابوس

 

يحمل " السرد" من الناحية اللغوية دلالةً على الانتظام  والتتابع، فمعناه " تقدمة شيء إلى شيء تأتي به متسقاً بعضه في أثر بعض متتابعاً. سرد الحديث ونحوه يسرده سرداً إذا تابعه ، وفلان يسرد الحديث سرداً إذا كان جيد السياق له "(1). وقد غدا هذا اللفظ من أكثر الألفاظ ذيوعاً في النقد القصصي المعاصر ، بيد أنّ هذا الذيوع لم يترافق مع استقرار للدلالة الاصطلاحية على معنى دقيق مجمع عليه ، فثمة من ينحو بالدلالة الاصطلاحية  منحى يجعلها وثيقة الصلة بالمعنى اللغوي المذكور، فالسرد عنده " هو المصطلح العام الذي يشتمل على قصّ حدث أو أحداث أو خبر أو أخبار ، سواء أكان ذلك من صميم الحقيقة أم من ابتكار الخيال" (2). لكن هذا المعنى – على ما فيه من ارتباط بالدلالة على الانتظام والتتابع – شاسع العموم من جهة ، مما يغمط المصطلح حقه في أن يكون محدداً دقيقاً، وهو من جهة أخرى قاصر في دلالته على المعنى المصدري وحده ، أي على فعل القص ، دونما دلالة على الطريقة التي يُؤدي بها هذا الفعل . لهذا سيكون من الأوفق أن نميل إلى تعريف لا يُغفل الطريقة ولا يقع في شَرَك التعميم، كأن نقول مع القائل: " السرد هو الكيفية التي تُروى بها القصة عن طريق هذه القناة نفسها- يقصد القناة التي تصل بين الراوي والمروي له – وما تخضع له من مؤثرات، بعضها متعلق بالراوي والمروي له، والبعض الآخر متعلق بالقصة ذاتها" (3).

ومن الجليّ أنَّ هذا التعريف للسرد يستبطن أبعاداً مختلفة تود هذه الدراسة أن تقف عند واحد منها ، وهو السرد بضمير المتكلم مثلما يظهر في نماذج من القصص القصيرة العُمانية التي كُتبت في التسعينيات من القرن العشرين الماضي. وهذه ناحية ترتبط ، في الحقيقة ، بتلك التقنية التي وجدت لها في الدراسات النقدية المعاصرة تسميات مختلفة مثل : زاوية الرؤية ، ووجهة النظر (The point of view) ، والتبئير ، وبؤرة السرد (Focalisation) (4).

لقد تفاوت كتّاب القصة العمانيون في مدى  لجوئهم إلى استعمال ضمير المتكلم في سردهم القصصي، فبينما نجد قاصََّا مثل علي المعمري لا يحيد عن هذه التقنية في أية قصة من القصص التي اشتملت عليها مجموعته " مفاجأة الأحبة" ، نجد قاصَّا آخر كمحمد اليحيائي لا يلجأ إليها على الإطلاق في مجموعته " خرزة المشي" ، وبين هذا وذاك ثمة كتّاب يستعملونها أحياناً ويتركونها أحياناً أخرى ، على تفاوت بينهم في ذلك .

السؤال الذي تريد هذه الدراسة أن تُعنى بالإجابة عنه هو : ما الداعي الذي يدعو الأديب إلى اللجوء إلى السرد بضمير المتكلم ؟ وهو سؤال ينبجس من قاعدة أضحى النقد يتعامل معها تعامل المسلَّمات ، وهي قاعدة ارتباط التقنيات التي يستعملها الأديب في إنتاجه الإبداعي بالرؤية التي يحملها والأثر الذي يود تحقيقه في وجدان المتلقي ، فليس من شك في أن  الأديب الحق لا يختار من التقنيات إلا ما كان يتواءم مع رؤيته المبثوثة في إبداعه ، ومع ذلك التأثير الخاص الذي يرغب في إيجاده في نفسية قارئه ؛ ذلك أنَّ الإبداع نهر واحد دافق ، يشكّل كل عنصر من عناصره رافداً من روافده الكثيرة المتآزرة معاً  في المسيل.

بيد أنَّ السؤال عن الداعي الذي يدعو" الأديب" إلى استعمال ضمير المتكلم ينبغي ألاَّ يقود إلى توهم أنَّ المتحدث بضمير المتكلم هو الأديب أو الكاتب نفسه . فهذا الضمير هو ضمير الراوي (السارد) الذي هو " صوت يختبئ خلفه الكاتب" (5). وفرقُُ ُ كبير بين الكاتب والصوت الذي يختبئ هذا الكاتب خلفه ، وإن كان مجال الالتقاء بينهما عملياً واسعاً جداً ، على ما سيظهر في هذه الدراسة .

وتود الدراسة الآن أن تعرض أهم الدواعي التي من الممكن أن تكون كامنة وراء لجوء كتّاب القصة العمانية في التسعينات إلى التقنية المذكورة :

 

1- طبيعة رؤية العالم : إنَّ من نافلة القول الإشارة إلى أنَّ (( كل تقنية تحيل إلى ميتافيزيقا معينة ، ولعله لا توجد حاجة إلى التذكير بأن كل ميتافيزيقا وكذلك كل تقنية تتعلق أولاً وقبل كل شيء بعبقرية الفرد ، ولكن أيضاً بعوامل ثقافية واجتماعية )) (6). معنى هذا أنَّ الرؤية التي يحملها الأديب للعالم ، بحكم انتمائه الثقافي وموقفه الفكري، سيكون لها أكبر الأثر في تعيين أنواع التقنيات التي سيلجأ إليها في إبداعاته . وحينما يكون الأديب – كما هو الحال هنا- منتمياً إلى ثقافة ترى الإنسان أكرم المخلوقات وخليفة الله في أرضه ، يغدو من المتوقع منه جداً أن يجعل من ضمير المتكلم مرتكزاً لقصته ، مثلما كان مرجع هذا الضمير مرتكزاً للعالم كله .

رؤية كهذه يمكن للقارئ أن يلمحها في قصة يحيى بن سلام المنذري " الرحيل إلى كابوس مؤبد" ، حيث يجعل العالم كله مجتمعاً في رأس سارده :

" ما لهذا العالم يتخبط في رأسي المسكين وكأنه يحقد عليَّ ويخرم صدري بإبر النار، متكبر أنت أيها العالم الصغير ، هكذا أنت ، صفحة ستحترق يوماً وترمى في زبالة هذا الكون " (7).

إنَّ رأس السارد هنا وإن كان " مسكيناً " ، لا تمنعه هذه الصفة من أن يكون مركزاً يتجمع فيه هذا العالم الذي مهما بدا كبيراً فهو في واقعه " صغير" ،  وسرعان ما سيحترق ويتلاشى من خارطة الوجود.

وتتوثق علاقة ضمير المتكلم برؤية العالم بنحوٍ أقوى عندما يكون هذا الضمير السبب المباشر لجلاء مغزى القصة ومرماها النهائي ؛ بربط الموضوع بصاحب الضمير وجعله مركزاً لما يجري من حوله ، وإن كانت كل الدلائل الظاهرة تشير إلى خلاف ذلك. مثل هذا ما يمكن أن يلاحظ في قصة محمد بن سيف الرحبي " لحظة اغتيال " التي يوحي ظاهرها كله بإلقاء مسؤولية الخطيئة المقترفة على اللحظة والزمن ، لكن التدخلات القوية لضمير المتكلم تذهب بذهن القارئ في اتجاه آخر :

   " يشتد الصراخ من حولي ، وتكبر ألف صرخة في أعماقي .. كل العيون تلتف حول وجهي ، تحاصرني حتى تكتم أنفاسي " (8).

إنَّ هذا الحضور المتكرر الطاغي لضمير المتكلم قمين بجعل القارئ يوقن بأنَّ بطلة القصة – وهي مرجع هذا الضمير – ليست بمنجاة من دائرة المسؤولية عن الخطيئة ، إن لم تلتف هذه الدائرة على عنقها هي وحدها، مهما حاولت القصة إبعادها عنها وربطها بالزمن . من هنا نعرف أنَّ طبيعة رؤية العالم التي يجلّيها السرد بضمير المتكلم لا تقتصر على الرؤية التي يحملها الأديب في ذهنه فحسب ، فمثل هذه الفكرة الذهنية الذاتية ربما لا يهم القارئ كثيراً أن يطلع على كنهها، أو أن يتعرف دوافعها وأبعادها. فضمير المتكلم له وظيفته أيضاً في إبراز تلك الرؤية التي تمثل أساس القصة والمرتكز الذي تقوم عليه فكرتها، وإن تكن هذه الفكرة غير صريحة ومباشرة.

2- نقل المشاعر والأفكار التأملية: إذا كان من المتفق عليه أنَّ الأدب – في أبسط تعريفاته – هو التعبير الجمالي عن تجربة شعورية ؛ فإنَّ هذا يستدعي أن يكون الأديب حريصاً كل الحرص على توخي كل الوسائل والسبل الكفيلة بإيصال مشاعره إلى  القارئ كما هي في الواقع : دافقةً وصادقةً ؛ فوجود هذه المشاعر في حد ذاته ليس كافياً لمنح الأدب فرادته وقيمته ، ما لم يتمكن الأديب من التعبير عنه تعبيراً جمالياً يضع التجربة الشعورية بين يدي القارئ كما عاشها الأديب أو كما أرادها أن تصل إلى قارئه .

والسرد بضمير المتكلم وسيلة من الوسائل المهمة التي تعين الكاتب على نقل مشاعره وإحساساته إلى القارئ ، حتى قيل : " إن هذه هي أكثر الوسائل استعداداً لإبراز الإحساس الذي ينقله القاص درامياً " (9). والسر في هذا أنَّ هذا النوع من السرد يتيح للكاتب أن يتوغل في أعمق أعماق الشخصية صاحبة الضمير ، فيتحدث عن أدقّ مشاعرها وأخفى أفكارها بطريقة مونولوجية استذكارية أو اعترافية أو استشرافية ، فيوصل إلى القارئ ما يريد إيصاله من مشاعر وأفكار دون أن يُشعره بالتعمل أو التكلف. وبعبارة أخرى : (( إن هذه الطريقة تسمح بوجود أي نوع من التأمل وتجعله مشروعاً عن طريق استخدامه في الانفعالات المنتزعة من القصة )) (10). والمطلوب من الأديب هنا أن يكون دقيقاً وحذراً في عمله ، فلا يجعل شخصياته تفكر أو تنطق أو تتصرف حسب رغبته هو ، متجاهلاً إمكاناتها وتكويناتها الثقافية والاجتماعية والبيئية ، وإلا فقدت قدرتها على إقناع القارئ بحياتها واستقلالها عن مبدعها .

إنَّ من وجوه أهمية نقل الأديب مشاعره وأفكاره الذاتية إلى القارئ – ومن ثَمَّ أهمية السرد بضمير المتكلم – أنَّ هذا النقل يدنو بالقصة إلى عالم الشعر ويجعلها وثيقة الصلة به ؛ ذلك أنَّ الشعر هو الذي يهتم في العادة بكشف مكنونات باطن الأديب وملامسة مشاعره ملامسة وثيقة ، أما النثر الأدبي القصصي فغالباً ما يعرفه الناس بسرده ما يلاحظه الأديب من أحداث من حوله ؛ ولهذا قيل : " إن الشعراء عادة ما ينظرون في المرآة في حين ينظر كتاب القصة من النافذة " (11).

والصلة الوثيقة بين السرد بضمير المتكلم ونقل الأديب مشاعره وأفكاره هي التي دعت بعض نقادنا المعاصرين المعروفين إلى وصف هذا النوع من السرد بأنه تقديم " ترجمة ذاتية خيالية" (12). وهذا وصف دقيق ؛ فلدينا " ترجمة ذاتية " لأنًّ لدينا حديثاً بضمير المتكلم عن أفكار ومشاعر وأحداث ، لكنها " خيالية" لأنَّ المتحدث إلينا بضمير المتكلم ليس المؤلف ، وإنما هو- كما تقدم – السارد الذي ليس في الحقيقة سوى نتاج من نتاجات خيال المؤلف .

ويكتسب نقل المشاعر والأفكار جمالية خاصة حين يجتمع الصوتان الداخلي والخارجي لدى الشخصية المأزومة في إظهار حقيقة ما تعانيه . نقرأ مثلاً في قصة سليمان بن علي المعمري " على من أضاعوا أسماءهم فلنعلن البكاء" هذا المقطع :

" فلأبحث عن اسمي إذن خارج هذه الدائرة من الأسماء ، ها أنا أخذ نفساً عميقاً من جديد ، ها أنا أبحث :

  • أنا اسمي .. اسمي .. اسمي

تباً لا أستطيع تذكر شيء .. كم هي عجيبة هذه الذاكرة البشرية ، أحياناً تكون كهفاً محتشداً بالتناقضات ، مستعداً لأن يحوي كل شيء وأي شيء ، وأحايين كثيرة تستحيل فضاء سرمدياً مكتنزاً باللاشيء " (13).

إننا هنا إزاء حوار داخلي (مونولوج) يجري في ذهن بطل القصة الذي أضاع اسمه ، لكن الكاتب أبى لسلسلة الأفكار أن تبقى متصلة الحلقات متوالية الأجزاء دون أن يقطعها – أو بالأحرى : يعززها – بصوت من البطل نفسه خارجي مسموع هذه المرة يقول : " أنا اسمي .. اسمي .. اسمي " ، قبل أن يعود الصوت الداخلي من جديد ليواصل لعبته المفضلة في عرض تتابع الأفكار والمشاعر . وواضح أنَّ تعاقب هذين الصوتين قد منح الأسلوب تجدداً وطرافة ، وأعطى الكاتب فسحة أكبر ومجالاً أرحب للتعبير عن هواجس بطله دونما وقوع في الرتابة والإملال .

 وقد يشتد التأزم بالشخصية أكثر ، فينقسم صوتها الداخلي إلى صوتين اثنين ، ويغدو ضمير المتكلم عندئذ معَّبراً عن أشد هذين الصوتين التصاقاً وأقربهما علاقة بالشخصية . هذه الحالة تُلاحظ مثلاً في قصة سالم بن ربيع الغيلاني " اليوم الأخير" ، وهذا مقطع منها :

(( ولكن ستظل السنون العشر تطاردك !

اصمتي أيتها النفس اللعينة ، اصمتي لا تعكري عليَّ صفو سعادتي ، دعيني أعيش فرحتي الأولى بين هذه الجدران ... )) (14).

القصة تصور صراعاً نفسياً داخلياً في وجدان بطلها حول طبيعة الحياة التي سيحياها بعد أن قضى في السجن عشر سنوات من حياته ، ويتجلى هذا الصراع بوضوح في هذا الحوار الداخلي الجاري بين طرفين اثنين: أحدهما الوجدان والضمير الحي، والآخر النفس الموسوسة . وقد اختار الكاتب أن يستعمل ضمير المتكلم في التعبير عن الطرف الأول، فيما ظل الطرف الآخر بعيداً معزولاً يلجأ إلى ضمير المخاطب في تعبيره عن مكنونات البطل نفسه. ويبدو أن الكاتب قد آثر لنفسه هنا السلامة والابتعاد عن التجريب ، فلم يخض محاولة التعبير عن الصوتين الداخليين معًا بضمير المتكلم ، ولعل هذه المحاولة كانت تستحق الإقدام عليها ؛ نظراً لملاءمتها التامة لجو القصة وسياقها العام.

إنَّ المساحة الواسعة التي يمنحها السرد بضمير المتكلم لاستعراض الأفكار والأحاسيس قد تجعل بعض الكتاب يسترسلون في إخراج مكنوناتهم حتى إنَّ هذا الاسترسال قد يصل ببعضهم إلى درجة التماهي الكامل مع السارد ؛ لذا لم تكن صدفة – إن كان في الأدب شيء يحصل صدفة – أن يحمل بطل سليمان بن علي المعمري  في قصته  " كم أحسدك يا جابر" اسم مؤلفه " سليمان" (15)، وكذا الحال مع بطل علي المعمري في قصته " الفراشة .. رسالة بالبريد السريع" فهو " علي المعمري" (16) ، وبطل قصته " لحظة تساوي مجيء الغد" يدعى " علياً " أيضاً (17) . وهذه ظاهرة لا يستحسن الترحيب بها إلا في نطاق محصور جداً وفي سياقات خاصة ، فليس ثمة من داعٍ إلى أن يكرر الأديب استعمال اسمه الشخصي لأبطال قصصه ،حتى إذا كان يروي في هذه القصص أحداثاً جرت له فعلاً ، ما دمنا نتفق على أنَّ هناك فرقاً واضحاً بين فنَّي القصة القصيرة والسيرة الذاتية ، وأنَّ حصول بعض الأحداث أو كلها في حياة المؤلف لا يعني أنَّ ما يكتبه سيتحول بقدرة قادر إلى سيرة ذاتية له .

3- الإيمان بالنسبية : فالسرد بضمير المتكلم من شأنه أن يُبرز حقيقة كون الإنسان المقيد بقيود الزمان والمكان لا يدرك من الحقيقة سوى جانب منها، هو الجانب الذي تتيحه له قدراته وإمكاناته الخاصة ، الفطرية منها والمكتسبة . أما الحقيقة المطلقة فليس في وسعه الإحاطة بها . يقول صاحبا " عالم الرواية" : (( إن تضييقات المجال ، عن طريق استخدام المونولوج الباطني أو الزاوية الذاتية لشخصية رئيسية مظهر من مظاهر الإيمان بنسبية الأشياء . فنحن عندما نكون سجناء في هنا – الآن اللذين يتميز بهما إدراكنا الحسي المباشر تُفرض علينا رؤية جزئية للأشياء، ولا يكون بمقدورنا أن نرى في الوقت ذاته جانبي البرتقالة )) (18).

لقد غدا من الواضح أنَّ الراوي الذي يستعمل ضمير الغائب في سرده فيوهمنا من خلاله أنه مطلع على كل الأمور والحقائق حتى ما خفي منها – وهو ما يعرف بـ " الراوي العليم" أو " كلي المعرفة" أو الذي تكون " رؤيته من خلف" حسب تقسيم تودروف(Todorov) (19) – راوٍ سيء ؛ " لأنَّ الراوي الذي يعرف كل شيء ، أو الكلي المعرفة ، هو الكاتب الذي فشل في أن يظهر بمظهر عدم المتدخل أو بمظهر الوسيط الذي ينقل أو يروي عن الأخرين ... " (20) . و السرد بضمير المتكلم يؤدي غالباً إلى الابتعاد عن مثل هذا الراوي ؛ نظراً لأن السرد بهذه الطريقة يفيد عدم إدراك سوى ما تدركه الشخصية التي هي مرجع ضمير المتكلم . وهذه فائدة عظيمة تجعل القصة كلها أقرب إلى القبول والتصديق ، بجريانها وفق المجرى الطبيعي للأمور في الحياة.

إنَّ أبرز تطبيق لنسبية الحقائق والأمور تتبدى في قدرة السرد بضمير المتكلم على تحديد مجال الرؤية لدى القارئ ، فلا يتشتت ذهنه هنا وهناك ويركز – بدلاً من ذلك – على ما يريده الكاتب أن يركز عليه وحده ." إن هناك الكثير من الفائدة في الإحساس بأن للصورة الآن نهاية محددة ، وأن أهميتها تبرز بشكل أفضل ما يكون حينما يتأكد بهذا الشكل الخطُ الذي يحيط بها " (21). نقرأ مثالاً على هذا مقطعاً من قصة " شطرنج" لعبد العزيز بن محمد الفارسي :

(( أجلس على حافة الكرسي الخشبي ، منذ زمن قد تمرد على أدوات الحصر والقياس، أيمّم وجهي شطر طاولة صغيرة تمتشق المسافة بيننا ، تعلوها ساحة معركة لم تبدأ بعد ، يسكن رأسي مثقلاً بأوهام كثيرة على راحتيّ اللتين تتألمان من طعنات الشعيرات المتناثرة على ذقني ...)) (22).

إنَّ ضمير المتكلم هنا بمنزلة البوصلة التي تحدد لرؤية القارئ اتجاه سيرها بدقة ، دونما تلكؤ أو ضياع : فالقارئ مدعو أولاً إلى أن ينظر إلى الكرسي الخشبي الذي يجلس السارد على حافته ، وهو مدعو بعد ذلك إلى النظر إلى الطاولة التي ينظر إليها السارد ، ومن ثَمَّ إلى ما يعلو تلك الطاولة من رقعة شطرنج هي ساحة معركة موشكة على الوقوع ، وأخيراً يراد منه أن يتخيل رأس السارد بشعيرات ذقنه التي تؤلم راحتي يديه . وهكذا يأخذ المؤلف بيد القارئ – أو بالأحرى: بفكره وعينيه – داعياً إياه إلى الاهتمام بما يتوخى هو – أي المؤلف – أن يهتم به ، دون سواه. صحيح أنَّ هذا الهدف كان سيتحقق أيضاً لو أن المؤلف عمد إلىالسرد بضمير الغائب، وجعل القارئ يوجه رؤيته إلى حيث يوجهه هذا الضمير، لكن التحقق لن يكون عندئذ على النحو الذي وجدناه عند استعمال ضمير المتكلم، لا كمًّا ولا كيفًا ؛ وذلك لأنَّ ضمير المتكلم له سحره الخاص في مخاطبة أفق التوقع لدى القارئ بأنه لن يُلقى إليه إلاَّ بما هو ذو أهمية بالغة في مسار القصة ومرماها ، وهذا قمين بجعله يهتم كمًّا بكل ما يوجهه إليه ضمير المتكلم، ويهتم أيضاً كيفًا بانتباه أكبر وانشداد أوثق إلى هذا الذي يوجَّه إليه، ما دام الموجّه هنا هو نفسه البطل الذي يسرد قصته ، وليس شخصاً آخر يسرد بضمير الغائب الأحداث التي حصلت لغيره .

وحين يكون القاص بارعاً في تحديد مجال الرؤية عند القارئ بواسطة ضمير المتكلم ، يفقد القارئ حياده في متابعة  ما يحدث للسارد ، وسرعان ما يشعر بأنه يشاركه في هذا الذي يحدث له ، وكأنه تماهى معه ، وكأن ضمير المتكلم بات ضميره هو ( أي القارئ) . كتب يحيى بن سلام المنذري في مقطع من قصته " هنا الليل " :

(( رأيته يدخل أحد المستشفيات ، وكان ذلك المستشفى يشكل جوهرة لامعة وسط الظلام .. دخلته أنا .. ودخلت ممرات الصمت .. ابتلعت رائحة الأدوية وقام الصداع يدغدغ رأسي .. الممرات طويلة بحيث إنَّ نهايتها لا تُرى .. أبواب تقابل أبواباً .. أرضية تمحو الخطوات .. ليس ثمة حركة .. ليس ثمة صوت .. هدوء فقط يضحك من خلال ثقب الليل . ينفتح أحد الأبواب ويندلق منه شبح أخضر ...))(23).

القارئ هنا ينقاد وراء السارد: يرى ما يراه ، ويحس كما يحس ، ويفعل ما يفعله. إنه يدخل معه المستشفى ، ويشعر بالصداع من أثر رائحة الأدوية مثله ، ويضيع معه بين الممرات ، ويعاني أيضاً وطأة الهدوء الضاحك ، دون أن يخطر بباله أن ينظر إلى غير ما ينظر السارد إليه ، أو أن يفكر في  غير ما يفكر فيه . وقد أعانت الكاتب على إحداث مثل هذا التأثير عواملُ كثيرة – إلى جانب السرد بضمير المتكلم – أهمها : غلبة استعمال الأفعال ، وتفاوت أزمنتها بين الماضي والحاضر ، والمراوحة بين الوصف والسرد ، والتشخيص ( الصداع يدغدغ رأسي) ، والجمع بين المتضادات ( هدوء يضحك) ، والصور الطريفة ( المستشفى يشكل جوهرة لامعة وسط الظلام ، يندلق منه شبح أحضر ) .

4- خلق الوحدة بين الجزئيات المتناثرة : على الرغم من قيام فن القصة القصيرة أساساً على الاختزال والتكثيف والاقتصار على اللمحات الدالة، فإنَّ كثيراً من الكتّاب  يجدون أنفسهم منساقين إلى التعبير عن جزئيات كثيرة وشظايا متناثرة في القصة القصيرة الواحدة ، وربما ينتقلون من قضية إلى أخرى ، ومن عقدة إلى أختها ، وقد يكون هذا في حيوات شخصيات متعددة ، وعبر أزمنة وأمكنة مختلفة . هنا يحتاجون إلى وسيلة تجمع لهم هذا الشتات ، وتخلق الوحدة بين الجزئيات والشظايا المختلفة ، وهذه وظيفة من الوظائف التي يتكفل بها السرد بضمير المتكلم ؛ لأنَّ هذا النمط من السرد هو الذي يتضمن الشهادة بأنَّ كل ما يُذكر في القصة إنما يُذكر  من خلال تجربة شخصية معينة – وهي مرجع ضمير المتكلم – مهما تفاوتت الجزئيات واختلفت الشظايا ، وهذا النحو من الوحدة كافٍ في المقام . يقول بيرسي لوبوك  ( Percy Lubbock) : " وحينما يروي الحكاية بنفسه فإنًّ هذه الحقيقة من شأنها أن تؤدي خدمة بأن تدفع القصة إلى الأمام وأن الشخص الأول سيتحدث بشكل غير مترابط، وسيقص علينا قصة مكونة من عدة شظايا ثم يعمد إلى إلصاقها بطراز معين كوحدة منفردة " (24).

يصرح السارد في قصة يحيى بن سلام المنذري السالف ذكرها" هنا الليل" ، بأنَّ عالمه مكوَّن من شظايا متفرقة لا يجمع بينها جامع سوى وحدة ذاته هو :

(( جني الأرق .. كرات الظلام .. المقبرة وطيور الصدى .. عالم مفتت ينحت في رأسي مشاهد مسحورة )) (25).

والسرد بضمير المتكلم هو الذي أعان بدرية بنت علي الوهيبي على أن تجمع في قصتها " التفاحة" مجموعة من القصص الصغرى : فثمة قصة الساردة مع صديقتها أمل ، وقصة الأم ، وقصة الحاج صالح ، وقصة سلمى المجنونة (26) . وهو الذي أعان سليمان المعمري أيضاً على أن يحشد عوالم كثيرة داخلية وخارجية ضمن قصته " كم أحسدك يا جابر" (27). ولولا ضمير المتكلم لكان ثمة مجال للقارئ للإحساس بالتكلف والتصنع في الجمع بين كل تلكم الشظايا و اللوحات المختلفة .

5- تغييب الآخرين : إذا كان السرد بضمير المتكلم يجعل القارئ بالغ القرب من شخصية معينة في القصة هي مرجع الضمير، يطلع على أفكارها ويقرأ إحساساتها مباشرة – على ما تقدم – فإن النتيجة الطبيعية المترتبة على هذا أن يغدو القارئ بعيداً عن الشخصيات الأخرى ، يلحظها من بعيد ، ويفكر في حقيقة دوافعها ، دون أن يلتقي مباشرة بمكنونات نفوسها وحقيقة مشاعرها وأفكارها. يقول برنار دي فوتو (Bernard De Voto) في سياق حديثه عن    " القاص الخفي" ، وهو المصطلح الذي يستخدمه للسرد بضمير المتكلم : (( وهناك مبدأ شائع في قصص سومرست موم ، وهو أننا لا نستطيع أن نعرف الشخصيات أو الدوافع الحقيقية للآخرين ، بل يمكننا فقط أن نفكر فيها ، وهذا مبدأ صحيح تماماً ؛ لأن " الأنا" دائماً ما تكون راوياً يفكر في دوافع الشخصيات الأخرى " (28).

إنَّ تجنب استعمال ضمير المتكلم قد يوحي إلى القارئ بأنه لا يرى أمامه أناسًا حقيقين ينطلقون من دوافع واضحة محددة ، وإنما يرى أشباحًا لبشرغائبين ، يتصرفون دونما تفكير أو وقفات تأمل في أمورهم المتكررة دوماً في كل الأزمنة . مثل هذا المعنى ربما يراود ذهن القارئ وهو يلحظ غياب ضمير المتكلم عن قصة محمد اليحيائي "مسامير" : (( فرقعة هائلة عند رأس الشارع . رجلان يتشاجران لسبب مجهول . وصلت الشرطة فاختنق الشارع ، ودخل الزمن الماضي في الزمن الآني في الغائب في الحاضر ))(29).

فهنا كان تجنب ضمير المتكلم تصرفاً موفّقاً فعلاً من المؤلف ؛ فهذا التجنب يرسخ فكرة نمطية الحدث الصادر من شخصيات لا تحمل ملامح محددة كما لا يحمل زمانها هوية واضحة المعالم .

وتتأكد فكرة تغييب الآخرين حينما يريد محمد الرحبي إخبار قارئه شيئاً عن بعض شخصيات القصة الأخرى ، غير الشخصية صاحبة ضمير المتكلم ، فإنه لا يسمح للقارئ بأن يلتقي بهذه الشخصيات ويتعرف ما لديها مباشرة . فكل ما يسمح له به هو أن يستمع إلى ما سيقوله السارد عنها فقط :

(( كل ما أعرفه ان ذاك المجذوم بكى .. ولعل والده هو الآخر مات في الكوت .. بل ولعله مات والحواجيل في قدميه )) (30).

إن المؤلف يخلق هنا مسافة متعمدة بين القارئ والشخصية ، فالمجذوم لا صوت مباشراً لديه ، والمعلومات الواردة عنه ترد على لسان السارد الذي يوغل في تغييبه حين يستعمل دوالّ مضادة لليقين والحضور مثل " كل ما أعرفه" و " لعلَّ" .

ولا يكتفي سليمان المعمري في قصته " على من أضاعوا أسماءهم فلنعلن البكاء" بتغييب الآخرين على مستوى البوح الداخلي حتى يغيّبهم على مستوى الحوار الخارجي أيضًا . نقرأ :

" ... سأتوجه إليه مدفوعاً بالفضول لأسأله :

  • ماذا الذي تضعه تحت إبطك ؟

وسيجيب :

  • هذا اسمي .. وأنت .. أين اسمك ؟

سأتلعثم قبل أن أقول :

  • أنا نسيت اسمي .

سينظر إليّ شزراً ، وسيطلق من فمه الزئبقي صافرة بينما يصفق بيديه " (31).

الشخصية الأخرى لا تتحدث في الحقيقة ، فالسارد هو الذي يتطوع بالحديث على لسانها متذرعاً بمثل قوله : " وسيجيب" . وهذا الفعل له – إلى جانب دلالته على أنَّ هذا الحوار متوقع الحصول ولم يحصل فعلاً – دلالة على أنَّ هذه الشخصية الأخرى مغيبَّة ، وليس لها ذلك الحضور القوي الذي يستأثر به السارد لنفسه .

6- التنويع الأسلوبي : يكون ضمير المتكلم وسيلة من الوسائل التي تتكفل بتحقيق تنويع في أسلوب القصة حينما يراوح الكاتب بينه وبين ضمير الغائب أو المخاطب ، فيتحدث بضمير المتكلم عن العالم النفسي الداخلي لإحدى الشخصيات ، ويتحدث بالضمير الآخر عن المجريات الخارجية وما يحدث في الواقع بكل أشكاله ومتغيراته.  

هذا ما نجده مثلاً في قصة " بوابات المدينة" لمحمد بن سيف الرحبي ، فهو يسرد ويصف ما في الخارج مستعملاً ضمير الغائب ، فيقول مثلاً :

(( لاحت الحمرة من أعماق البحر مبشرة بالنهار يخرج من جوف الليل الطويل ، نظرات حيرى ترصد البوابة أحياناً، وأحياناً الجبال. هذه أمامهم الجنة المنتظرة تفتح ذاكرتها للتاريخ وللرزق القادم من أفواه أسماك القرش .. تطل الرغبة في عين الواقف خلف البوابة .. " العشر" تسحبه اليد المعروقة من زجاجة السمن وجرة العسل وأشيائهم الأخرى )) (32).

فإذا أراد الانتقال إلى العالم الداخلي لبطل القصة ، انتقل إلى ضمير المتكلم وقال : " وغدت البوابة وراء ظهري دنيا أخرى .. عالم جديد رسمته أماني أبي في عقلي الصغير.. قرية أضحت محض ذكريات هلامية ، والفلج الذي جف قحطاً يتراءى لي كحلم قديم ... " (33). والقصة كلها تتبع طريقة المراوحة بين استعمال هذا الضمير واستعمال ذاك، وهذا يمنحها تنوعاً جذاباً في الأسلوب ، ويبعدها عن الرتابة التي قد تنجم عن النسج اللغوي على منوال واحد لا سيما إذا طالت القصة بعض الشيء ، كما هي الحال هنا .

سلبيات ووجوه قصور:

على الرغم من تعدد الأهداف التي يمكن للأديب أن يحققها من لجوئه إلى استعمال السرد بضمير المتكلم ، وعلى الرغم من الآثار الواضحة التي يتركها هذا النوع من السرد في أدبية القصة وفي نفس المتلقي ، فإنَّ القضية قد تكون أحياناً محفوفة ببعض المكاره التي لا بد من تجنبها وإلا عادت على القصة بأثر سيء . وتود هذه الدراسة ، في الختام، أن تشير إلى أمثلة من هذه المكاره التي وقع فيها بعض الكتّاب :

1- تقدم في هذه الدراسة ، عند الحديث عن " الإيمان بالنسبية " ، أنَّ السرد بضمير المتكلم يؤدي " غالباً " إلى الابتعاد عن الراوي العليم . وكلمة " غالباً " هنا لها دلالة دقيقة  مقصودة ، ففكرة الراوي العليم لا يتم طردها طرداً نهائياً وحاسماً بمجرد اللجوء إلى السرد بضمير المتكلم ، فقد تظل حاضرة حتى مع وجوده ، وهذا ما لاحظه الدكتور صلاح فضل مثلاً على بعض أعمال جمال الغيطاني الأدبية (34).

لقد وقع بعض كتّاب القصة العمانية في التسعينيات في مثل هذا المأزق ، فهذا محمد الرحبي مثلاً يقول :

" في ذاكرة الأب نبتت أغصان سوداء جذورها في القرية وامتدادها إلى القلب .. دماء البشر الذين طالتهم بندقيته تحوم حول مقلتيه لتزيدهما احمراراً " (35).

ضمير المتكلم في هذه القصة مرتبط بالابن ، فهو وحده الذي يتأتى للقارئ أن يطلع على عقله ووجدانه دونما شعور بأن السارد هنا " عليم" . أما الدخول في ذاكرة الأب وقراءة ما يجول فيها وفي قلبه فليس يتحقق إلا بمعونة سارد عليم بكل شيء ، مهما كان خفاؤه .

2- أدى اقتصار استعمال ضمير المتكلم على شخصية واحدة فحسب ، هي الشخصية الرئيسة في القصة ، إلى وقوع بعض المؤلفين في حيرة من أمرهم لدى إرادتهم عرض الخواطر والأحاسيس التي تجول في داخل غير تلك الشخصية ، وحاول بعضهم اللجوء إلى طرق لا تبدو مقنعة إقناعاً فنياً كافياً . عائشة بنت سالم الحارثي مثلاً في قصتها " بقايا ألم " استعملت ضمير المتكلم لساردتها البطلة وحدها ، وعندما أرادت أن تتحدث عن هواجس الزوج – وهو شخصية أساسية في القصة – اضطرت إلى جعله ينطق بكل ما في داخله نطقاً مسموعاً ، الأمر الذي أضفى على القصة طابعاً مسرحياً غير مقنع ، وأبعدها عن الإطار الواقعي الذي كانت تطمح إلى الكون فيه . تقول القصة مثلاً :

" وما إن ذكرتُ اسم والدته حتى نهض واقفاً وهوى بقبضته على الحائط كأنما  يعاقبه ، وشرع يبكي بحرقة وهو يقول : آه ما أكثر أخطائي ، ما أكثرها ، لقد قصرت في حق أمي ، لقد هجرتها طويلاً و ماتت وهي غاضبة عليَّ ، آه، كيف أنسى؟ كيف  أطيق ؟ ... " (36).

لقد كان في وسع المؤلفة أن تعالج القضية على نحو آخر، بأن لا تقصر ضمير المتكلم على الزوجة وحدها ، فتستعمله لكل من الزوجين على التناوب . وهذه طريقة أثيرة في القص ، وإن احتاجت إلى نضج فني على مستوى عال لدى المؤلف ، مثل النضج الذي أبداه عبدالرحمن منيف في " شرق المتوسط" وجبرا إبراهيم جبرا في " السفينة" على سبيل المثال ، فقد استعملا ضمير المتكلم لغير شخصية ، وكان هذا الاستعمال على درجة راقية من الإقناع الفني .

ليس صحيحاً إذاً ما ذهب إليه دي فوتو(De Voto) حين زعم أنَّ ضمير المتكلم " لا يمكن استخدامه عندما يضطر القاص إلى تناول محتويات عقول كثيرة " (37). فهذا الاستخدام ممكن ، والإمكان هنا ثابت بالتجربة والممارسة ، بل قد يكون هذا الاستخدام هو الحل الأمثل في حالات كثيرة كالتي أشير إليها آنفاً .

3- إنَّ العلاقة الوثيقة بين السرد بضمير المتكلم ونقل المشاعر والأفكار التأملية ، لتجعل الانجرار إلى الوعظ والتلقين المباشرين أمراً متوقعاً دوماً إذا لم يأخذ المؤلف حيطته وترك العنان مرسلاً لأفكاره ومشاعره لتنثال كيفما اتفق. وغني عن البيان أنْ ليس أضرّ  للقصة فنياً من أن يسلك كاتبها مسلك الإرشاد والوعظ بنحو مباشر. يقول سليمان المعمري مثلاً في قصته " على من أضاعوا أسماءهم فلنعلن البكاء" :

" أوه .. لا أستطيع تذكر اسم جدي ، يبدو أنني فقدته هو الآخر .. آه ما أشدَّ حماقتنا نحن البشر! .. لا نشعر بقيمة  أسمائنا إلا حين نفقدها .. حين تكون في متناولنا كثمار غير محرمة لا نعيرها التفاتاً .. نهر منها .. نتعفف عنها .. نستعمل غيرها نكاية بها ... " (38).

وخلاصة القول : إنَّ السرد بضمير المتكلم – على ما فيه من جاذبية وبساطة ظاهرية – يحتاج من الكاتب إلى أن يكون ذا قدم راسخة في ميدانه ، لئلا يقع في المكاره التي سلفت الإشارة إلى أمثلة منها .

 

** هذه المقالة

الهوامش:

(1)- ابن منظور المصري : لسان العرب ،دار صادر ، بيروت ،د.ب ، مادة " سرد" .

(2) - مجدي وهبة وكامل المهندس : معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب ، مكتبة لبنان ، بيروت 1979م ، مادة " سرد" .

(3) - حميد لحمداني : بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي ، ط2 ، المركز الثقافي العربي ، بيروت والدار البيضاء 1993م ، ص45( والجملة المعترضة في النص من عندي) .

(4) - انظر : حميد لحمداني : المرجع نفسه ص6؛ وبورنوف وأوئيليه : عالم الرواية ، ترجمة نهاد التكرلي ، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 1991م ، ص75.

(5) - يمنى العيد: تقنيات السرد الروائي ، دار الغارابي ، بيروت 1990م ، ص117.

(6)- بورنوف و أوئيليه : عالم الرواية ،ص88 .

(7) - يحيى بن سلام المنذري : نافذتان لذلك البحر ، المطابع العالمية ، مسقط 1993م،ص76.

(8) - محمد بن سيف الرحبي : بوابات المدينة  ، دار جريدة عمان ، مسقط 1993م ، ص21.

(9) - بيرسي لوبوك : صنعة الرواية ، ترجمة عبدالستار جواد ، منشورات وزارة الثقافة والإعلام ، بغداد 1981م ، ص121.

(10) - برنار دي فوتو : عالم القصة ، ترجمة محمد مصطفى هدارة ، عالم الكتب ، القاهرة 1969م ، ص209.

(11)- سوزان لوهافر : الاعتراف بالقصة القصيرة ، ترجمة محمد نجيب لفتة ،دار الشؤون الثقافية العامة ،بغداد 1990م ، ص32.

(12)- عزالدين إسماعيل : الأدب وفنونه ، ط7، دار الفكر العربي ، القاهرة 1978م ، ص 187.

(13) - سليمان بن علي المعمري : على من اضاعوا أسماءهم فلنعلن البكاء ، في : محمد علي الصليبي (محرر) : نماذج من المقالات والقصص الفائزة في مسابقة المنتدى الأدبي 1996-1999م ، ص145.

(14)- سالم بن ربيع الغيلاني : اليوم الأخير ، في : المصدر السابق ، ص174.

(15)- سليمان بن علي المعمري : كم أحسدك يا جابر، في : المصدر السابق ،ص122 .

(16) - علي المعمري : مفاجأة الأحبة ، الصحراء للطباعة والنشر ، الرباط 1993م ، ص71.

(17)- المصدر نفسه ، ص77.

(18)- بورنوف وأوئيليه : عالم الرواية ، ص86.

(19)- يرى تودروف أن رؤية الراوي على ثلاثة أنواع : فهناك " الرؤية من خلف" وفيها يرى الراوي كل شيء بما في ذلك المخفيات والبواطن، وهناك "الرؤية مع " وفي هذه الحالة تكون رؤية الراوي مساوية تماماً لرؤية الشخصية القصصية ، وهناك أخيراً " الرؤية من خارج " وهي التي لا يعرف الراوي معها إلا القليل مما تعرفه إحدى الشخصيات. ( للتفاصيل انظر : حميد لحمداني : بنية النص السردي، ص47) .

(20)- يمنى العيد : تقنيات السرد الروائي ، ص92.

(21)- بيرسي لوبوك : صنعة الرواية ، ص122.

(22)- عبدالعزيز بن محمد الفارسي : شطرنج ، في : محمد علي الصليبي (محرر): نماذج من ... ، ص185.

(23)- يحيى بن سلام المنذري : نافذتان لذلك البحر ، ص53.

(24)- بيرسي لوبوك : صنعة الرواية ، ص125.

(25)- يحيى بن سلام المنذري : نافذتان لذلك البحر ،ص52.

(26)- بدرية بنت علي الوهيبي : التفاحة ، في : محمد علي الصليبي (محرر) : نماذج من ... ، ص191.

(27)- سليمان المعمري : كم أحسدك يا جابر، في : المصدر السابق ، ص122.

(28)- برناردي فوتو : عالم القصة ، ص210.

(29)- محمد اليحيائي : خرزة المشي ، دار شرقيات ، القاهرة 1995م ، ص56.

(30)- محمد الرحبي : بوابات المدينة ، ص36.

(31)- سليمان المعمري : على من أضاعوا أسماءهم فلنعلن البكاء ، في : محمد علي الصليبي (محرر): نماذج من .. ، ص149.

(32)- محمد بن سيف الرحبي : بوابات المدينة ، ص32.

(33)- المصدر نفسه ، والصفحة نفسها .

(34)- انظر: د.صلاح فضل : إنتاج الدلالة الأدبية ، مؤسسة مختار ،القاهرة 1987م ، ص135.

(35)- محمد بن سيف الرحبي: بوابات المدينة ، ص32.

(36)- عائشة بنت سالم الحارثي: بقايا ألم ، في : محمد علي الصليبي(محرر) : نماذج من ... ، ص110.

(37)- برناردي فوتو : عالم القصة ، ص212.

(38)- سليمان المعمري: على من أضاعوا أسماءهم فلنعلن البكاء ، في : محمد علي الصليبي(محرر): نماذج من ... ، ص 146.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المصادر والمراجع

 

1- إسماعيل ،عزالدين : الأدب وفنونه ،ط7 ،دار الفكر العربي ، القاهرة 1978م.

2- بورنوف ، رولان وريال أوئيليه : عالم الرواية ، ترجمة نهاد التكرلي، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد 1991م.

3- دي فوتو ، برنار : عالم القصة ، ترجمة محمد مصطفى هداره ، عالم الكتب ، القاهرة 1969م .

4- الرحبي ، محمد بن سيف: بوابات المدينة ، دار جريدة عمان ، مسقط 1993م .

5- الصليبي ، محمد علي (محرر) : نماذج من المقالات والقصص الفائزة في مسابقة المنتدى الأدبي 1996-1999م ، المطبعة الشرقية ومكتبتها ، مسقط 2000م.

6- العيد ، يمنى: تقنيات السرد الروائي ، دار الغارابي ، بيروت 1990م.

7- فضل ، صلاح : إنتاج الدلالة الأدبية ، مؤسسة مختار ، القاهرة  1987م.

8- لحمداني ، حميد : بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي ،ط2 ، المركز الثقافي العربي ، بيروت والدار البيضاء 1993م.

9- لوبوك ، بيرسي : صنعة الرواية ، ترجمة عبدالستار جواد، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، بغداد 1981م.

10- لوهافر ، سوزان : الاعتراف بالقصة القصيرة ، ترجمة محمد نجيب لفتة ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد 1990م .

11- المصري، ابن منظور الأفريقي : لسان العرب ، دار صادر ، بيروت، د.ت.

12- المعمري ، علي : مفأجاة الأحبة ، الصحراء للطباعة والنشر ، الرباط 1993م.

13- المنذري ، يحيى بن سلام : نافذتان لذلك البحر ، المطابع العالمية، مسقط 1993م.

14- وهبة ، مجدي وكامل المهندس : معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب ، مكتبة لبنان ، بيروت 1979م.

15- اليحيائي ، محمد : خرزة المشي ، دار شرقيات ، القاهرة 1995م .

    

تعليق عبر الفيس بوك