د. سيف بن ناصر المعمري
ليس من السهولة الإجابة على الأسئلة الصعبة مثل السؤال الذي طرحه عليَّ أحد الشباب الباحثين عن العمل خلال الأسبوع الماضي؛ حيث قال: برأيك ماذا يُمثل الشباب؟ سكتُ برهة، لا أعرف ماذا أجيب هذا الشباب الذي كانت تبدو على ملامحه حالة من اليأس والإحباط، وأيضًا كنت أتأمل في هذا السؤال الذي يبدو بسيطا ومألوفا وتوجد عشرات الإجابات الجاهزة التي يمكن تقديمها لهذا الشاب وغيره من الشباب.
من السهل أن أقول له إن الشباب يمثلون عماد أي مُجتمع، وإنهم المورد البشري الذي لا ينضب، إنهم الأفكار المتجددة، إنهم يمثلون القوى المنفتحة القابلة للتغيير في المجتمع، إنهم يمثلون الأمل في الحاضر والغد، إنهم الفئة الحالمة التي ترفع سقف أحلام المجتمع في الغد، إنهم القوى التي تفكر في الحلول البديلة والتي يمكن أن تحل بها إشكاليات مستمرة... كل ذلك وأكثر، يمكن أن أجيب به على هذا الشاب، لكنني سألت نفسي- وهذا الحوار مستمر بداخلي- هل يا ترى شاب واع مثله سيقبل مني وسيُقام بهذا الكلام؟ هل مثل هذا الخطاب سوف ينتشله من حالة الانتظار والإحباط التي يمر بها نتيجة الانتظار الطويل لفرصة عمل تتناسب والمؤهل الذي يحمله والذي ثابر لسنوات لكي يحصل عليه؟
حقيقة لم أتمكن من إجابة هذا الشاب بما يمثله وقلت له بدلاً من ذلك، لا يهم ما تمثله للآخرين ولكن عليك أن تمثل كل شيء لنفسك، لأنك إذا فقدت أهميتك لنفسك فقدت الدافعية التي تحافظ بها على ثباتك وقدرتك على الحلم في غد أفضل.. لن تستمر هذه الأيام كما هي، ولن نحصل على ما نُريد لأننا نستحق أن نحصل عليه، لابد أن نخوض صراعاً مع الواقع حتى نصل إلى ما نريد.
لم يكن مثل هذا الكلام كافياً لكي يبعث الارتياح في نفس شاب تواق للحياة بكل مباهجها، ولم يكن كافياً لكي يجعله يحتفظ بما يشعر به داخل نفسه، في وقت لا يجد الشباب من يسمع ما يحملون من آلام وهموم وقلق من الواقع والمستقبل الذي يعيشونه. فالمسافة بين المركز الذي يفترض أن يسمع لهم وبين الهامش الذي يعيشون فيه أكبر مما كانوا يتخيلون؛ إذ لم تنجح كل الخطط والبرامج الاقتصادية في تقصيرها رغم التجارب السابقة التي مرت والتي سمعوا عنها من إخوتهم الكبار والذين مر أكثرهم بمثل ما مروا به، وكأن التاريخ يُعيد نفسه في كل عقد، وكأن الشباب لابد أن يتألموا كثيرا وينتظروا طويلا حتى ينالوا فرصة لابد منها لكي يحققوا أحلامهم في غد أفضل، وكأن أعدادهم في الهامش الذي يوجدون فيه تتزايد، لا ينالون إلا القليل من كل شيء.. أقلية في مراكز اتخاذ القرار، أقلية في الحصول على الدعم الاستثماري، أقلية في الحصول على وظائف ذات مستوى ودخل مميزين، أقلية في الحصول على إعفاءات من الرسوم التي تفرض على الجميع، أقلية في الحصول على منابر للحديث عن قضاياهم. كيف يمكن للشباب إذن في ظل هذا الواقع أن يحصلوا على إجابة منطقية حين يسألون ما القيمة التي نمثلها لهذا المجتمع؟
لا نطرح مثل هذا الأمر لكي نزيد الشباب ألمًا فوق الألم الذي يشعرون به، ولا نطرحه لكي نزيد الحكومة ضغطًا فوق الضغوطات التي تمر بها، ولكن نطرحه لأننا نشعر بقلق كبير من ازدياد الفجوة بين المركز والهامش، مثل هذه الفجوة تقود إلى تداعيات عدة على المجتمع بأكمله، وتضعف من فرص تمكين الذين يعيشون في الهامش من الفرص التي يفترض أن تصنع لهم لينصرفوا إلى تعزيز قدرتهم على مواكبة تغير الأوضاع الاقتصادية وزيادة العبء على المواطن الفرد. الأمر يتطلب أكثر من مُراقبة الوضع، وإحصاء الأعداد وتتبع "الهاشتاجات".. يتطلب الأمر عملا نوعيا وتفكيرا مختلفا، حتى يظل شبابنا ثروة تنتفع بها البلد، بدلاً من أن يكونوا عبئًا يتبرم منه الجميع، وكأنه لا حاجة لنا بهم طالما أن الحدود مفتوحة لاستيراد العمالة من كل بقاع الدنيا، حيث يصر المركز على أن يُحيط تلك الفرص باشتراطات واهية لم تقد حتى الآن إلى ارتقاء في جودة الخدمة والمنتج وفي تميز تجارب النجاح، لكنها قادت إلى خلق هامش ألصقت به العديد من الصفات السلبية التي منعته من الالتحاق بتلك الوظائف، وكانت المُبرر الدائم للرفض والإقصاء، حتى إنَّ البعض آمن بها من كثر ما سمعها تتردد على مسامعه. أليس من الأجدر بالمركز أن يضع ثقته في الهامش ويعمل على بناء جسور يمكن لكلا الطرفين من خلالها أن يتحركا ويسمعا بعضهما البعض بما يقود إلى تمكين الشباب من بناء وطنهم بفكرهم الخلاق وأفكارهم المبدعة، هذه الأفكار التي يمكن أن تكون الحجارة التي تحرك المياه الراكدة والمتحفظة في البيئة الاقتصادية التي لا تزال تقاوم رياح التغيير حتى في ظل العولمة التي قادت إلى تغييرات في كثير من البيئات الاقتصادية، ما السر الذي يقف خلف هذه المقاومة الكبيرة للتغيير رغم ضغط الأزمة الاقتصادية؟
إنَّ حالة الهيمنة التي تسيطر على الحياة الاقتصادية والتي ينتج عنها سيطرة على القرارات الاقتصادية توسع من حالة التهميش الاجتماعي وتخلق نزعة أنانية تقود إلى الثراء الفاحش على حساب فئات اجتماعية كبيرة مثل الشباب الذين ينظرون إلى الاتفاقيات والاستثمارات الكبيرة التي تدخل البلد وغيرها، ولكنهم لا يجدون فرص عمل تليق بمؤهلاتهم في كل ذلك مما يجعلهم يفقدون الثقة في كل الخطابات التي تقدم لهم حول أهميتهم لوطنهم وتنميته. لذا لابد من مراجعة عميقة لأداء المؤسسات الاقتصادية والبرلمانية وفق معيار قدرتها على تقديم سياسات تقلل من اتساع هذه الفجوة، وتقود إلى تتبع دور الهامش في صناعة القرارات المُتعلقة بمُستقبلهم بما يحقق لهم الشعور بالأمن الاقتصادي والاجتماعي.