مُكرهًا أقول.. شكراً ترامب على قرارك الأهوج

 

حمد العلوي

أعلمُ أنّ هناك أُناس كُثر سيستنكرون منّي هذا الشكر للوهلة الأولى، ولكن قياساً على القول المأثور "ربِّ ضارة نافعة" يأتي شكري للرئيس الأمريكي في سياق المنفعة الضارة في مظهرها على قراره العدواني الأهوج، وذلك بإعلانه "القدس الشريف" عاصمة لإسرائيل. وهذا المخطط كان قدر رُسم له أن يكون نتيجة حتمية لانتصار داعش وأخواتها، ولكنّها برغم تدميرها لكل شيء، إلا أنّها لم تنتصر بسلطة ودولة، وإذا كان غرور وغطرسة ترامب، لم يجعلاه يتيقن من ذلك، فإنّ حلمه هو وإسرائيل لم ولن يتحقق أبداً بعد اليوم، لأنّه هو والصبية المتهافتون على الكراسي، لم يحسبوا الأمور بقدرها الصحيح، وقد عمِّي عليهم أن محور المقاومة، وبمساندة روسيا الدولة العظمى، قد أفسدوا المخطط الخبيث، الذي كان هدفه أن تصبح دولة إسرائيل من البحر إلى النهر، فقد انتهى هذا الأمر تماماً الآن ولن يعود، وإذا هذا المخطط استغرق أكثر من أربعين عاماً للتخطيط له وتنفيذه، فإنّه بالمعلوم قد أسقط في ظرف سبع سنوات مضت بلا رجعة، وستحتاج أمريكا وإسرائيل وأدواتهما، أربعين سنة أخرى لتكرار العملية من جديد، وذلك لإنتاج مخطط آخر لتحقيق الحلم الإسرائيلي إيّاه، وقد يتطلب الأمر هذه المرة زمنا بضعف الزمن السابق في التخطيط والتنفيذ، وعنده ستكون إسرائيل قد اختفت من الوجود.

إذن فإنّ الأمر قد أصبح مختلفاً عن ذي قبل، وأنّ الأمّة العربية قد تغيّرت من اليوم على إثر انتصار محور المقاومة، وانكشاف أمر المنافقين للعامة، فلم يعد هناك ما يُخفى عليهم بعد هذه الحادثة المزلزلة، فبعدما كان ذلك الفهم خاصاً ببعض النخبة السياسية والأمنية، وكان وقتذاك يصعب عليهم إقناع العامة والبسطاء، وذلك للاعتراف بوجود منافقين بين ظهرانينا، وقد بح صوت عبد الناصر، وهو يتكلم عن الخونة والعملاء دون أن يلقى كلامه صدىً كبيراً، وظلّوا هم على كراسيهم بحراسة إسرائيل، لأنّها كراسي نشأت شريطة السماح ببقاء الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، وربما قُدِّر لهذا النجاح الوهمي الاستمرار فيه لزمن ما، فلولا إنه مسَّ بمقدسات دينية وعقيدة إسلامية، وعلاقة تاريخية لا يمكن تجاوزها، مهما كان الناس في ضلالة وغفلة، ولولا ذلك لربما غضّ الناس الطرف عن الأرض واستبدالها بأرض أخرى، ولكن هذه العقائد والمسلمات الأخرى كانت العائق الكبير، فرفض التخلي عن القدس الشريف لليهود أو غيرهم، فقد كانت كل الحروب الماضية بين الغرب والشرق، يدور محورها حول بيت المقدس.

لذلك وجب عليّ القول شكراً الرئيس ترامب، أنّك أخرجت الأمّة من وهم كبير، كان سيأخذ وقتاً طويلاً في المماطلة والتسويف؛ ولأنّ هذا القرار قد اتّخذه الكونغرس الأمريكي عام 1995م أي منذ 22 سنة مضت، وكان يُنْضج على نارٍ هادئةٍ حتى تنتصر النتائج بالأسباب، وكانت داعش وأخواتها الوسيلة الأبرز في تلك الأسباب، وهي تمثل جيشكم بالوكالة في المنطقة (أيّها الأمريكان) وذلك بإدارتكم المباشرة، وبدم ومال عربيين سليبين من أمة العرب الغافلة، أمّا وأنك قد سرَّعت الكشف عن المستور، وأشعلتها حرباً على العرب والإسلام لا هوادة فيها، فهذا عمل جيد منك وجرأة لم تسبق إليها، تفوقت في قرارك على دبلوماسية، ونفاق سابقيك من الرؤساء السالفين، وقد أتى قرارك هذا في الوقت المناسب، بعدما تحقق النصر لمحور المقاومة على جيوشكم الداعشية الجرارة، ولا نقول إن جيشكم الداعشي قد هُزم تماماً، لأنّه لم يحقق أهدافه كاملة، لا بل حقق الكثير من الأهداف بالهدم والقتل والتخريب والتدمير، ولكن الشيء الأهم الذي لم يتحقق لهم، قيام دولة الشَّر اللا إسلامية دولة "الخرافة" المكملة للدولة الصهيونية الزائلة - بإذن لله - وبفضل قراركم الجريء وغير الحكيم، إذن أصبح قراركم مكشوف لعدم وجود سلطة داعشية على الأرض، تؤسس إلى سايس/بيكو جديد.

إنّ الرئيس ترامب لم يوف بشيء من وعوده الداخلية أو الخارجية، إلا بوعدين تجاه العرب، ألا وهما: أولاً نفذ وعده بسلب العرب أموالهم، فأعلن عن سلب نصف تريليون فوق الطاولة، وما خفي كان أعظم، وهذه أموال الأمة وليس الأشخاص، وثانياً نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، بعدما منح القدس وما عليه من مقدسات دينية وبشر بجرة قلم لإسرائيل، فإذا نجح وعد بلفور الأول فإنّ وعده الترامبي الثاني أتى في غير وقته.. فلن ينجح، ولكنّه لم ينفذ وعوده الانتخابية الأخرى وهي: لم يقاطع الصين، ولم يهاجم كوريا الشمالية، ولا ألغى الاتفاق النووي مع إيران، وبمعنى أوضح إنه يجد صعوبة في مواجهة الرجال الأقوياء، والفلسطينيون والعرب اليوم هم أقوياء بفضل حلف المقاومة.

وإذ اعترف إنّي استعجلت في تصديقه يوم تنصيبه رئيساً لأمريكا، فكتبت مقالة تفاؤل عنه، بأنّه سيكون أفضل من الذي سبقه لأنّه قال: سيحصر كل همه في أمريكا، بقوله أمريكا "أولاً" وفهمت من ذلك، إنّه لا شيء آخر سيصرف إليه نظره إلا الشأن الداخلي، وقد لا يكون الرجل كاذباً في الذي قاله، لأنّه أعتبر إسرائيل، هي أمريكا بل قلب أمريكا النابض، بدليل إنّ كل الحروب الخارجية الأمريكية، كانت تنفذ لأجل إسرائيل وبتخطيط من الأخيرة، حتى لو كانت أمريكا هي من يخسر المال والرجال لعيون إسرائيل، ولما أدركت حقيقة خسائرها، لم تعلن هزيمتها وتوبتها عن الحروب العبثية حول العالم، لا بل فقد أوجد لها الصهاينة المبرر في الاستمرار في الحروب، ولكن بالفكر والإدارة مدفوعة الأجر، فقد دبروا لها طرق وأساليب جهنمية جديدة، ألا وهي إدارة الحروب برجال وأموال الخصم نفسه، وهذا قمة الدهاء والخبث الرهيب.

إنّ تغلغل الخيانة المزمنة في بعض النفوس العربية، ذلك بسبب ضعف العقيدة الإسلامية في النشأة الأولى، وهذه النفوس كانت تتبع الفكر الداعشي، وذلك بتدثرها بالإسلام مظهراً، والسجود لليهود في السِّر، حتى إنّ جامعة الدول العربية صارت مطية طيعة لهذا الصنف العميل، ولكم أن تقرأوا المرارة في كلمة معالي الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية للسلطنة، وهو الرجل الذي يفضل الصمت حينما يكون الكلام بهدف المزايدة والظهور، فأضطر إلى الكلام وألمح بدبلوماسية عُمانية هادئة، وصادقة كما هو فكر قائد عُمان الفذ الحكيم، فقال إن اللجنة المجتمعة خلف الكواليس، صار لها أكثر من ثلاث ساعات تجتهد (وربما تتقاتل) فيما بينها، وذلك لصياغة قرار يناسب كل وزراء الخارجية العرب، بحيث ترضي اختلافهم  جميعاً على مصير القدس الشريف، فإذا كان هناك اختلاف على مصير القدس، فكيف بالذي هو أدنى منه مكانة دينية وعقدية وتاريخية.. يا عرب.

إن حل مشكلة القدس ومن قبلها فلسطين الوطن، بلا شك في أيدي المخلصين من أبناء فلسطين، وهم يمثلون الغالبية العظمى بالطبع، فنقول لكم أيّها الفلسطينيون، أوقفوا الاستنجاد بمن خان قضية فلسطين والقدس، واعتمدوا على أنفسكم، فالناس يقفون مع القوي وليس مع الضعيف، وأنتم بإذن لله أقوياء، ولا تشغلوا أنفسكم بتوحيد القيادات، فربما كان تفرقها رحمة بفلسطين، فطالما كان الهدف واحداً وهو تحرير "فلسطين" فذلك يكفي، فلو كان القرار بيد سلطة واحدة، لربما بيعت فلسطين من سنوات بعيدة، وتفرقكم في القيادات أفضل من ديكتاتورية الفرد المتسلط، وهذه سمة من سمات العرب ملازمة لهم، وإنّ الفلسطينيين أكثر الشعوب العربية عِلمًا ومعرفة، فالإنسان الواعي لا خوف عليه من الفرقة، ولكن الثبات على المبدأ، وعدم الانحراف عنه هو سر قوتكم، ولا بأس أن أكرر هنا أنّ الناس مع القوي في موقفه ضد الباطل، ولكم المثل في مواقف روسيا، فإنّها لم تقف مع أوكرانيا الضعيفة، وهي جارتها وحديقتها الخلفية، ولكنها وقفت مع سوريا البعيدة، لأنّها تعشمت فيها القوة والصمود، وقد صار النصر حليفها المؤزر، رغم هول التحالف الدولي الظالم ضدها، فالنصر لكم بإذن لله تعالى، والخزي والعار لإسرائيل وترامب وكل الخونة الظُّلام.