نحو ولادة جديدة للأمة في ذكرى المولد الشريف

عبدالله العجمي

ونحن في الذكرى العَطِرة للمولد النبوي الشريف، فإننا نحتاج مولدا جديدا لنا؛ كوننا نعيش أمواتاً في عالمنا المحيط بنا: ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا، مستضعفين، لا همَّ لنا إلا تعميق هذا الاستضعاف، وتكريس العمل على التنظير للهزائم والخيبات المتتالية، والعمل على كل شيء عدا أن نكون أقوياء؛ لأننا ربما نخاف ذلك، فتكلفة القوّة عالية جدًّا. أما الضعف؛ فله ألف عُذر وعذر؛ لأن وجود القوة يجعلنا في تحدٍّ حقيقي مع بقية الأقوياء على الساحة: المستكبرين منهم والطيبين؛ فالمستكبرون وإن يكن علينا أن نضربهم في نقاط الضعف، فما هي إلا جولة لنكتسب قوة أكبر؛ ليكون الضرب بعدها في مواقع القوة لديهم. أما الأقوياء الأطايب، فالوضع سيحتّم علينا التعامل معهم كالندّ للندّ.. أي تعاون قويّ مع قويّ.

لقد أفقدَنا التخلّف والجهل كثيراً من الإحساس بوجداننا في هذا العالم، فأصبح الجهل -وللأسف- واقعاً نتعايش معه، ووصل بتنا الحال إلى أن نُقدّسه، ونجمع بعضاً من أحجاره لنرجم بها العلم الذي سيُبدد كل تلك المقدّسات في أذهاننا، ثم انتقلنا لمرحلة أخرى بأن نجعل من هذا التخلّف حضارة.. مما حدا بنا أن نرجم بقية الحضارات بأقسى كلمات الضلال وأعتى عبارات الانحراف، ونكون بذلك قد عكسنا المفاهيم وقلبنا المعايير، فصار الإنسان العربي والمسلم رهينَ ذاته، ولا قابلية لديه للانفتاح على الغير، ولا التأقلم مع الواقع في العالم.

ولعل عظمة الرسالة المحمدية تكمن في أنها لا تتوانى عن تسليط الضوء على نقاط ومكامن الضعف، بأسلوب جميل يفتّح أعين المجتمع عليها، لا لهدف سوى لتصحيحها، بينما في المقابل نرى أن مكمن مشاكلنا في زمننا الراهن هي أننا نتحاشى الحديث عن نقاط ضعفنا، تهرُّباً من الاعتراف بها، لتلتهم بعدها نقاطُ الضعف كلَّ نقاط القوة لدينا، ويصير الواقع كله ضعفاً وهواناً.

والقرآن الكريم عندما أراد علاج نقاط ضعف بعض المسلمين في معركة بدر -مثلاً- شخّصها وذكرها لا لشيء إلا ليعالجها؛ إذ قال تعالى: "كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ" (الأنفال:5-7).

وإذا ما جئنا إلى سورة "الأحزاب"، فسنرى أن فيها إشارات صريحة لبعض نقاط الضعف التي عايشها المسلمون في معركة أحد، ونصحتهم بالابتعاد عن بعضها، فتحدثت عنهم بكل شفافية: "إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً" (الأحزاب:10-12).

لذا؛ فإن معالجة نقاط الضعف يجب أن تتم بكل شفافية لكي يستقيم الأمر بعد ذلك، وهو ما يجب أن نأخذه من دروس القرآن الكريم في هذا الجانب، خاصة وأننا في حالة عناق مع الأزمات؛ فلا تكاد تنتهي أزمة حتى تظهر أخرى، ومهاوي التحديات محيطة بنا من كل جانب، فمهما تحركنا فكأنما الأرض التي نحن عليها تهتز تحت أقدامنا لعدم ثباتها.. نحن بحاجة إلى مثل هذه الشفافية، وأن نعترف بنقاط ضعفنا بكل شجاعة، وأن ننفتح على نقاط قوتنا بكل واقعية، لكي تتمخض هذه الانعطافات عن ولادة أمة جديدة تستطيع الوقوف في مصافّ بقية الأمم.

إننا نحتاج في ذكرى المولد إلى ولادة جديدة؛ لأن تعاليم الإسلام ماتت في أنفسنا وأصبحت تقاليدَ وعادات، وبالتالي فإننا نتحرك في نطاقها، اعتدنا الصلاة بلا روح، والصيام بلا تقوى، والحجّ بلا انفتاح على معانيه ومقاصده، أما القرآن فصرنا نقرأه للثواب أو البركة لا للوعي والله تعالى يقول: "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا".

لقد وُلد المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- في وقت كان الضلال فيه يسيطر على الوضع العام؛ لذلك المجتمع الجاهلي. أما الآن، فنعيش في زمن ينتشر فيه ضلالٌ مغلّفٌ بالثقافة، وتجهيلٌ متعمدٌ، لذلك فإننا نحتاج إلى ولادة إيمان مثقّف، وحِراك مثقّف، ووعي مثقّف. علينا أن نعيد بناء ذواتنا على قاعدة التفكير كأمة لا كأفراد، لنكون كما أرادنا الله حين قال: "كُنتُم خيرَ أمّةٍ أخْرِجت للنَّاس" (آل عمران:110).

* رئيس لجنة الثقافة والتعليم بالاتحاد العربي الإفريقي للإعلام الرقمي