أساطيرُ المِلْحَ

محمد خلاد - المغرب

 

التَّلُ الأبيض
كَوْمَةٌ من أساطير الملح
مُلقى في الصحراء
مثل حُوت نتن
على حَافةِ مياه حارقة
نَسيَ التَّلُ أصله المائي
اعْتَقد أنه منحدر من
سلالةِ الطين
تربَّى في الكهوف والمفازات
ثم ترك الكثبان الصخرية
تتمَوَّج بين مد وجزر
تطارد البحر المذعور
٠٠٠٠٠٠٠٠٠
في البدْء كانت الفوضى
وكان هذيان الكون
غرق العدم في المدى
وتدلَّت من سقيفة السماء
مصابيحُ النيازك
تنير وجه الزرقة
وتقود سحباً عجفاء
على خط الأفق الشفقي
نحو الغياهب السحيقة
كان التل الأبيض حَبَّة ملح
في مخاض حُمَّى الخَلْقِ
تبحث عن عذوبة الماء
استيقظتِ الحواس
وخيَّمَ قيْظٌ بلا ضفاف
على امراة مهجورة
تمشي مُجْهَدةً نحو التل الأبيض
يرافقها طفلٌ يُغَطَّيه الغبار
٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠
تساءل التّلُ الأبيض حائراً:
أهذه سلالتي؟
أعمود من ملح أنا؟
أصرْتُ مسْخاً؟
لم ألتفِتْ يوما إلى الوراء
فلسْتُ أُورفْيوس* يجذبني
العالمُ السفلي إلى أغواره المظلمة
فَمَنِ المَسْخُ أنا أم هي؟
أم هذه كلمة الرَّب
تَسْري في مسامِ التراب؟
العالم موجود في كل فراغ
المدى لا يحدُّه المدى
وكلمةُ الرَّب اختارت
منذ أن جَلْجَل الرعد في الجبل
أن تشق البحر
وتتيهَ في القفر
تقرع أجراس الحَوَاس الميتة
في ظلمة القِيامة
٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠
التل الأبيض
صار شيخا وحيدا
في خلاء البَرَاري البعيدة
يقود قافلة جِمَالٍ ضَلّت
في دوامة عاصفة عن الطريق
يتَّشِح بِوَحشة النبوة
ورؤيا مُضَرَّجَةٍ بالدم المقدَّس
يَجْترَحُ المعجزات
يزحف مثل السحالي ملتصقا بالتراب
ينقلب إلى عشب يشرب الظمأ
وليٍلٍ يبني عُشَّه
في الوهاد الموحشة
يَبٍيضُ قمرا
ويستحم في اشتِعالَ السَّراب
٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠
يخاطب الشيخ نفسه:
أضعتُ أُبُوَّتي يوم عبرتُ النَّهْر
وعقدتُ ميثاق الدم
هذه رُؤْيَايَ وتَوْبتي
دَعِ الماء يعود إلى نبعه
لاشيء أصبح كما كان
فشجرة الأنساب تساقطت أوراقها
منذ أنْ فقدَ البحْرُ عُذْريَته
حين انشق شطرين
وابتلعته الرِّمال
لَسْتُ غيْرَ حَبَّة ملح من بقاياه
فقدْتُ امرأتي وطفلي
وأرْضي صارتْ سَبْخَةً قاحلة
تَنِزُّ بماء وملح
وكثير من الدماء
عيونُها شاخصةٌ إلى السَّماء
تنتظر قرابين الفداء
------------
* أورفيوس: مبدع الغناء والموسيقى في الأسطورة الإغريقية ، فقد زوجته الجميلة التي وَلِهَ بها وَلَهًا شديدا بعد أن لدغتها أفعى، ورُمُيَ بها في العالم السفلي، تَاه أورفيوس يُغنِّي ألحانا شجية فَرَقَّ لحاله إَلَه العالمِ السفلي واستقبله ليُعيد له زوجته مشترطاً عليه ألا يلتفت إلى الوراء ليرى زوجته وهي عائدة معه من العالم السفلي قبل أن يخرج، سار أمام زوجته لكنه لم يسمع وقْع خطاها فلم يطق صبرا والتفت وراءه ليتأكد من وجودها وما كاد أن يمسكها ليجذبها إليه حتى ابتلعها العالم السفلي إلى الأبد.

تعليق عبر الفيس بوك